ليس غرضنا هنا أن نحاول إقامة برهان عن وجود الله، لأن كل من يقرأ هذه الصفحات لا بدّ أن يسلِّم بحقيقة وجود الله وكيانه الأزلي. هذه الحقيقة واضحة في وجداننا كما أن وجود الكون واضح في إحساسنا. نؤمن كما يقول الكتاب المقدس بأن [الله موجود] (الرسالة إلى العبرانيين 6:11) إنما غرضنا البحث عمّا يعلمنا الكتاب عن الله أو بالحري عما يقول الله عن نفسه.
هذه المعرفة عن حقيقة الذات الإلهية أساسية للغاية. ذلك أن جهلنا لحقيقة ذات الله يحرمنا من فهم أعمال الله على حقيقتها. فكلما ازددنا علمًا بذات الله ازدادت معرفتنا بأعماله وتصرفاته. لكن لا يظُنَّنّ أحد أننا قادرون على بلوغ معرفة تامة عن الله عزّ وجلّ مهما عظمت معرفتنا واتسعت. لأن المعرفة المطلقة صفة من صفات الله وحده. فلا عجب إذ ذاك إن وجدنا أن الله يقول عن نفسه حقائق لا نستطيع إدراكها وإثباتها، بل ينبغي قبولها والتسليم بها لأن القائل هو الله ولأن تلك الحقائق مطابقة لكل ما نعلمه عنه.
الله واحد أحد
الحقيقة الأولى التي نتعلّمها عنه تعالى هي أنه واحد. فما من أحد يستطيع أن يستنتج من قراءة الكتاب المقدس شيئًا يناقض ذلك. فمن السفر الأول حتى السفر الأخير نجد هذه الشهادة المتماثلة تتكرّر في أكثر من خمسين عبارة. نقرأ في سفر التثنية، مثلاً (4:6) قوله تعالى: “اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ.” ونقرأ في سفر إشعياء 6:44 و8 “هكذا يقول الرب... أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، وَلاَ إِلهَ غَيْرِي... هَلْ يُوجَدُ إِلهٌ غَيْرِي؟” وفي العهد الجديد نقرأ في الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 4:8 “لَيْسَ إِلهٌ آخَرُ إِلاَّ وَاحِدًا.” من هذه الأعداد والكثير غيرها نجد أن الكتاب المقدس يعلمنا أن الله واحد أحد؛ وليس ذلك وحسب بل يعلمنا أيضًا أنه الإله الوحيد ولا إله سواه.
ثلاثة أقانيم
هنا حقيقة أعمق مما ذُكر آنفًا، حقيقة لا يقد أحد على إدراكها أو فهمها بتمامها. هذه الحقيقة هي أن هذا الإله الواحد كائن منذ الأزل في ثلاثة أقانيم، ومع ذلك فليس هو ثلاثة آلهة بل إله واحد.
وقد جرى الإعلان عن هذه الأقانيم بالتعابير الثلاثة الآتية: الله الآب، الله الابن، الله الروح القدس. وإلى كلٍّ من هذه الأقانيم الثلاثة تُنسب ذات الصفات الإلهية.
أزلية الإله المثلّث الأقانيم
لا يخفى أنه من غير الممكن أن يوجد أكثر من إله واحد أزلي خالق الكل. فكل ما عداه، شخصًا كان أو شيئًا، لا بدّ أن يكون مخلوقًا. لأنه لو وُجد أكثر من خالق واحد أزلي لكان هناك أكثر من إله واحد. وهذا ما لا يمكن أن يأخذ به من يدرس الكتاب المقدس ويقبل تعليمه. فإذا كان الآب والابن والروح القدس، كل منهم أزلي، كما يُعلن الكتاب، فهم إذن إله واحد. نقرأ في إنجيل (يوحنا 1:1-2) عن الله الآب والله الابن (الكلمة) أنهما كليهما خالق أزلي: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله... كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان.” وفي الرسالة إلى العبرانيين 14:9 نقرأ عن “روح أزلي”.
الثالوث الأقدس في العهد القديم (التوراة)
مع أن العهد القديم لا يتكلم عن الثالوث الأقدس كما يتكلم العهد الجديد فهو يستعمل غالبًا صيغة الجمع عندما يتكلّم الله. إن اللفظة العبرانية الأصلية [إلوهيم] المترجمة إلى العربية بالكلمة [الله] هي كلمة جاءت بصيغة الجمع. وفي مواضع كثيرة يستعمل الله ضمير الجمع عند الكلام عن نفسه، كقوله تعالى في سفر التكوين 26:1 “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا.” وقوله في إشعياء 8:6 “مَنْ أُرْسِلُ؟ وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا؟” فالجمع المستعمل هنا ليس جمع التعظيم كما يستعمله الملوك والرؤساء لأن الكتاب المقدس لا يستعمل صيغة الجمع في كلام الملوك. إن هذا الجمع إنما هو جمعٌ حقيقي موجود في وحدة حقيقيّة. هذه الحقيقة واضحة في الآية المذكورة أعلاه حيث يستعمل الله تعالى الجمع والمفرد في آية واحدة عند الكلام عن نفسه. قال: “مَنْ أُرْسِلُ؟ (مفرد) وَمَنْ يَذْهَبُ مِنْ أَجْلِنَا (جمع)؟”
فمع قلة إدراكنا لهذا الحق العظيم نجد أن الكتاب المقدس يعلمنا واضحًا أن الله الآب والله الابن (المسيح الكلمة) والله الروح القدس هم واحد.
الله روح
الشيء الثاني الذي نتعلمه عن الله من الكتاب المقدس هو أنه روح – أي ليس له صورة منظورة ومحصورة في الزمان والمكان، وليس بمقدور البشر إدراكه بحواسهم الجسدية. أعلن المسيح نفسه أن “الله روح” (يوحنا 24:4) ونقرأ أيضًا في يوحنا 8:1 “الله لم يره أحد قط.” حقًا لا يستطيع الإنسان أن يدرك روح الله إلا عن طريق الروح. يقول الكتاب أن الإنسان قد خُلق على صورة الله. “فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ.” (التكوين 27:1) ونفهم من الكتاب أن هذه الصورة ليست صورة خارجية ظاهرية لكنها تشمل الصفات الأدبية التي لا توجد إلا في الإنسان والتي هي انعكاس للصفات الإلهية كالعقل والشعور الأدبي كما جاء في الرسالة إلى كولوسي 9:3-10 “خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ.”
الله يكلمنا بتعابير بشرية
لذلك عندما نقرأ في الكتاب المقدس عبارات كهذه: “رأس الله، تكلّم الله، مشى الله، مدّ الله يده... إلخ” إنما نعلم أنه يستعمل عبارات بشرية للدلالة على أعمال خاصة به لا يمكننا تصوّرها إلا بمقابلتها بالأعمال التي يقوم بها جسد الإنسان. في الكتاب المقدس يكلمنا الله باصطلاحات بشرية حتى نستطيع، نحن البشر، أن نفهم، تمامًا كما نكلّم الأطفال لغتهم عندما نريد أن نفسّر لهم، مثلًا، أن القطار يأكل فحمًا والسيارة تشرب بنزين لكي يتمكّنا من السير والحركة تشبيهًا لهما بأكل الطفل وشربه ليتقوّى ويتحرّك. وبذلك نكون قد فسّرنا له باللغة التي يفهمها ما لا يستطيع إدراكه بطريقة أخرى.
صفات الله
رأينا، إذن، فيما يتعلّق بكيان الله أنه واحد أزلي وأنه كائن منذ الأزل في ثلاثة أقانيم وفيما يتعلّق بطبيعته رأينا أنه روح. والآن لننظر إلى ما يقوله الكتاب عن صفات الله. تُقسم هذه الصفات إلى قسمين: صفات طبيعية وصفات أدبية. أما صفاته الطبيعية فهي العلم بكل شيء، والقدرة على كل شيء، والوجود في كل مكان، وكونه أزليًا. أما صفاته الأدبية فهي القداسة، والبر، والعدل، والرحمة والمحبة. ليست هذه مجرد أسماء الله أو صفات خارجية له بل تعبيرات عن ذاته وجوهره. فلنتأمل أولاً في صفاته الطبيعية وأولى هذه الصفات العلم بكل شيء.
العلم بكل شيء
إن الكتاب يُعلّمنا أن الله يرى كل شيء ويعلمُ كل شيء في كل مكان وفي كل زمان، نقرأ في سفر الأمثال 3:15 “فِي كُلِّ مَكَانٍ عَيْنَا الرَّبِّ مُرَاقِبَتَانِ الطَّالِحِينَ وَالصَّالِحِينَ.” ثم نقرأ في 21:5 من السفر عينه: “لأَنَّ طُرُقَ الإِنْسَانِ أَمَامَ عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَهُوَ يَزِنُ كُلَّ سُبُلِهِ.” وفي سفر المزامير 5:147 يقول المرنم الموحى إليه: “عَظِيمٌ هُوَ رَبُّنَا، وَعَظِيمُ الْقُوَّةِ. لِفَهْمِهِ لاَ إِحْصَاءَ.” وفي مزمور 2:139-4 نقرأ “أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ... وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا.” من هذه الآيات وغيرها نعلم جيدًا أن الله يرى ويعلم لا الأمور الظاهرة وحسب بل أيضًا الأفكار والكلمات ونوايا القلب في كل مكان وزمان. وليس هذا فقط بل إن الله يعلم المُستقبل كما يعلم الحاضر والماضي. نقرأ في سفر إشعياء 5:48 قوله “أَخْبَرْتُكَ مُنْذُ زَمَانٍ. قَبْلَمَا أَتَتْ أَنْبَأْتُكَ.” وأيضًا في 9:46-10 “أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي. مُخْبِرٌ مُنْذُ الْبَدْءِ بِالأَخِيرِ، وَمُنْذُ الْقَدِيمِ بِمَا لَمْ يُفْعَلْ.”
الوجود في كل مكان
أما الصفة الطبيعية الثانية فهي الوجود في كل مكان.
إن الله يرى ويعلم كل شيء في كل زمان ومكان. وليس هذا فقط بل هو موجود في كل مكان. لا يوجد مكان في أي وقت وزمان يمكن الإنسان أن يقول عنه: “ليس هو هنا.” كتب داود بالوحي في مزمور 7:139-12 “أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ؟ وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ فَهَا أَنْتَ. إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْرِ، فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ. فَقُلْتُ: [إِنَّمَا الظُّلْمَةُ تَغْشَانِي.] فَاللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هكَذَا النُّورُ.” وأيضًا يقول الرب بفم إرميا النبي 23:23-24 “أَلَعَلِّي إِلهٌ مِنْ قَرِيبٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلَسْتُ إِلهًا مِنْ بَعِيدٍ. إِذَا اخْتَبَأَ إِنْسَانٌ فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةٍ أَفَمَا أَرَاهُ أَنَا، يَقُولُ الرَّبُّ؟ أَمَا أَمْلأُ أَنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟”
قادر على كل شيء
والكتاب المقدس يفيدنا أيضًا أن الله قادرٌ على كل شيء. فنقرأ مثلاً في سفر دانيال 35:4 “وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: [مَاذَا تَفْعَلُ؟].” ونجد في سفر أيوب 2:42 اعتراف ذلك الرجل الموحى إليه “قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ.” ويسألُ تعالى في سفر التكوين 14:18 إزاء أمر خطير يُعَدّ مستحيلاً فيقول: “هل يستحيل على الرب شيء؟” فنجيب عن السؤال بكل خشوع ووقار: “حاشا يا رب. أنت الذي خلقت بقدرتك الإلهية الكون وكل ما فيه، كيف يُتصوّر أن يكون أي شيء خارج ضبط قدرتك وسيطرتها؟!”
الله أزلي
ويعلمنا الكتاب كذلك أن الله أزلي. فما من زمن يمكن أن يُقال في “لا إله” لأن الله موجود قبل كل وقت وزمان. لذلك عندما طُلب إليه أن يُعطيَ الناس اسمًا خاصًا يعرفونه به أعطاهم الاسم “أهيه الذي أهيه” (خروج 14:3) الكلمة “أهيه” لفظ عبراني في الأصل معناه “أنا الكائن”، يريد بها أنه هو الموجود منذ الأزل، فالماضي كالمستقبل معروف لديه. جاء في مزمور 2:90 “مِنْ قَبْلِ أَنْ تُولَدَ الْجِبَالُ، أَوْ أَبْدَأْتَ الأَرْضَ وَالْمَسْكُونَةَ، مُنْذُ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ أَنْتَ اللهُ.”
يتبين لنا من كل ما تقدم أن الكتاب المقدس يعلمنا أن الله عالمٌ بكل شيء وقادر على كل شيء وموجود في كل مكان وأزليّ. وتُعرف هذه الصفات – كما سبق ذكره – بصفات الله الطبيعية.
صفات الله الأدبية
لنتأمل الآن في صفات الله الأدبية، كلما ازددنا معرفة بهذه الصفات ازددنا معرفة بسير أعماله معنا. وما سبّب عجز الأديان غير المسيحية عن تبيّن معاملة الله للإنسان وفهم العلاقة الحقيقية الكائنة بين الله والناس إلا خلوّ تلك الأديان إلى حدٍّ كبير من هذا التعليم.
القداسة
الصفة الأدبية الأولى هي قداسته. إن قداسة الله قداسة مطلقة في الطهارة والنقاوة. لو أدركنا هذه الخاصية حق الإدراك لعرفنا لماذا تكون كل خطية بدون استثناء قبيحة في نظره. فلا يمكن بتاتًا أن يتغاضى الله عن الخطية مهما بدت تلك الخطية طفيفة وزهيدة في نظر الناس. القداسة نور؛ يقول الكتاب: “الله نور.” (1يوحنا 5:1) والخطية في كل مظهر من مظاهرها ظلمة. وكما أن النور والظلام لا يمكن أن يبقيا معًا في وقت واحد ومكان واحد هكذا القداسة والخطية لا يمكن أن توجدا معًا. هذا ما يعلمنا إياه الكتاب من أوله إلى آخره، وهو يوضح لنا أن الله يعاقب الخطية لأن الخطية لا تقدر أن تبقى في حضرته الطاهرة القدوسة. إن رسالة العهد القديم تُعنى بكليتها بقداسة الله وهي توجد ملخصة في قوله تعالى الوارد في سفر إشعياء 15:57. “لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأَبَدِ، الْقُدُّوسُ اسْمُهُ: “فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ...” ونقرأ في سفر حبقوق 13:1 “عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ.”
القداسة والخطية لا توجدان معًا
أما في العهد الجديد فنجد عين الرسالة المتضمنة في العهد القديم. نقرأ، مثلاً، في 1بطرس 15:1-16 “بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: [كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ.]” فلا عجب إن قرأنا في سفر الأمثال 9:15 و26 “مَكْرَهَةُ الرَّبِّ طَرِيقُ الشِّرِّيرِ... مَكْرَهَةُ الرَّبِّ أَفْكَارُ الشِّرِّيرِ.” من هذا تنجلي أمامنا ضرورة تطهُّرنا من الخطية إن شئنا الوجود في حضرة الرب طاهرين بلا لوم. لهذا السبب لا يقدر أحد غير الله نفسه في المسيح يسوع “القدوس” (أعمال الرسل 14:3) على أن يطهرنا من دنس الخطية ونجاستها.
البر والعدل
الصفة الثانية من صفات الله الأدبية هي صفة مزدوجة: البر والعدل. معنى هذا أن كل ما يعمله الله إنما يعمله بالعدل. فلا توجد محاباة أو محسوبية في عمله ولا في معاملته للناس، على حدّ ما جاء في رسالة بطرس الأولى 17:1 “الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ...” كذلك في الرسالة إلى كولوسي 25:3 يقول: “وَأَمَّا الظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ، وَلَيْسَ مُحَابَاةٌ.”
لا يقدر أحد في الوجود أن يحمله على إلغاء حكمه أو إبداله ولا أن يسترضيه ويصالحه بأي شيء لا يتّفق مع قداسته تعالى. لذلك مهما صلّى الإنسان الخاطئ، أو صام، أو قام بفرائض أخرى من فرائض الدين لا يستطيع أن يمنع حكم الدينونة الإلهي على الخاطئ غير التائب. وبالعكس، إذا أتى إليه خاطئ تائب متممًا شروط الغفران الإلهي باعترافه بالخطية وتركه إياها ومؤمنًا بعمل المسيح الكامل من أجله فالكتاب يؤكد لنا “أنه أمين وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ.” (1يوحنا 9:1)
الرحمة
إن الله مع اتصافه بالعدل يتّصف أيضًا بالرحمة، وهي صفة ثالثة من صفاته الأدبية. فالله رحيم وهو يرحم. إن عدل الله يقضي بإدانة الخاطئ غير التائب ومعاقبته. ولكن ما حال الخاطئ التائب توبة حقيقية عن خطاياه، وبالتالي لا يستحقّ إلا أن يُعاقَب بسبب الخطايا التي ارتكبها في السابق؟ هنا نجد رحمة الله: وهي صفة من صفاته تعالى تجعله يطلب مصلحة الخاطئ ويرحب به عند رجوعه ولا يحاسبه على الخطية. هذا ما نقرأه في سفر إشعياء 7:55 “لِيَتْرُكِ الشِّرِّيرُ طَرِيقَهُ، وَرَجُلُ الإِثْمِ أَفْكَارَهُ، وَلْيَتُبْ إِلَى الرَّبِّ فَيَرْحَمَهُ، وَإِلَى إِلهِنَا لأَنَّهُ يُكْثِرُ الْغُفْرَانَ.”
الرحمة لغير التائب
وحتى لغير التائبين يُظهر الرب رحمته في صبره وطول أناته. فهو لا يعاقب الخاطئ فورًا لكنه يمدّد له فرصة التوبة. قيل في سفر المزامير 8:103 “الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ.” ونقرأ أيضًا في العهد الجديد في رسالة بطرس الثانية 9:3 “لاَ يَتَبَاطَأُ الرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ التَّبَاطُؤَ، لكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ.”
فضلاً عن ذلك يُظهر الله رحمته حتى للعصاة وغير الراغبين في قبوله واتّباعه. قال يسوع في إنجيل متى 45:5 “فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ.”
المحبة
لكن الصفة التي ينفرد بها الكتاب المقدس عن سواه من الكتب الدينية هي تلك الصفة الإلهية التي عرّفنا المسيح بها وأظهرها في حياته ألا وهي المحبة. فالرحمة والمحبة ليستا شيئًا واحدًا لأنه ممكن للإنسان أن يرحم من لا يحبه. لكن المحبة يجب أن تكون متبادلة وشخصية. بوسعي أن أرحم من لم أعرفه أو أشاهده ولكني لا أستطيع أن أحب إلا من أعرفه، والمحبة الحقيقية تتطلب أن من أحبّه يحبني هو أيضًا؛ وهذا سبب من الأسباب التي تجعل “محبة الله” تتطلب أن يكون الله في جوهره متعدّدًا في وحدته كما ذكرنا سابقًا. فإذا كان الله محبة فالمحبة تقتضي وجود شخص آخر محبوب يحبّه حتى قبل الخليقة لأن الله لا يمكن أن يصير شيئًا بخلاف ما كان. فإذا كانت المحبة صفة من صفاته في الحاضر فهي إذن صفته منذ الأزل.
لا شك أن سبب فشل الأديان غير المسيحية في إظهار الله في صورة واضحة تامة لا إبهام فيها هو أنها بجملتها لا تُظهره كإله المحبة.
إن محبة الله هي التي تؤكد لنا أن الله يعتني اعتناء خاصًا بكل فرد منا ويضمن لنا الشركة معه والعلاقة الشخصية به. والكتاب المقدس لا يعلمنا فقط أن الله محبّ بل أن الله في ذاته محبة. توجد في الكتاب المقدس أربعة أوصاف رئيسية لذات الله: الله محبة، الله روح، الله نور، الله حياة. وكل من هذه الأوصاف الأربعة لازمٌ لإدراك كيفية معاملته للإنسان. إن الأوصاف الثلاثة الأخيرة تخبرنا عن قدرته وقداسته وأزليّته، أما الوصف الأول فيبيّن اهتمامه بخلقه – إنه يحبّهم! لا توجد صفة أسمى من صفة المحبة لأن وجود المحبة لا يتوقّف على استحقاق المحبوب. بوسع أب أن يحب ابنًا غير مستحق كما نرى ذلك في القصة التي قصّها المسيح تبيانًا لمحبة الله. قصة الابن الضال الواردة في إنجيل لوقا 15.
والكتاب المقدس جملةً يُثبت دائمًا هذه الحقيقة ذاتها. نقرأ، مثلاً، في رسالة يوحنا الأولى 9:4-10 ما يلي: “بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا.”
محبة الله للخطاة
جاء في الرسالة إلى أهل رومية 7:5-8 “فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ أَيْضًا أَنْ يَمُوتَ. وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.” ونقرأ في الرسالة إلى أفسس 4:2-5 القول: “اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ...” ونجد في أماكن كثيرة غير هذه إعلان محبة الله للإنسان الخاطئ. وليست هذه المحبة – أي محبة الله – صفة معنوية فحسب بل قد بيّنها الله بالفعل والواقع، كما يجب أن تظهر كل محبة. لقد بيّنها الله في مجيئه إلينا في يسوع المسيح الذي بذل نفسه لكي يطهرنا ويقدسنا حتى يؤهلنا لمعاشرة الله القدوس ومساكنته. إن هذه المحبة مُحِبّة للجميع، لمن تسهل محبته ولمن تصعب محبّته، لمن يودّ التحسّن ولمن لا يودّ التحسّن. (أنظر يوحنا 16:3) إن الله يحبك حتى أنه بذل ابنه الوحيد لأجلك. تقول كلمة الله في رسالة بطرس الأولى 24:2 “الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ.”
بعد أن عرفت عن جوهر الله ومحبته أدعوك أن تصلّي مع النبي داود:
«اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ. اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي... قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي. رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ، وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي. فَأُعَلِّمَ الأَثَمَةَ طُرُقَكَ، وَالْخُطَاةُ إِلَيْكَ يَرْجِعُونَ.» (مزمور 1:51-2؛ 10-13)
إن كان لديك سؤال أو تريد الحصول على الدروس بالمراسلة، أو كتاب العهد الجديد (الإنجيل) اكتب إلى العنوان التالي: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.