كان الفرح ونقيضه الحزن وما زالا من أهم العواطف أثرًا في حياة أفراد الجنس البشري منذ وجوده على الأرض!
وبسبب العصيان المريع لأبوينا الأولين في جنة عدن، تحوّل النورُ ظلامًا والفرح حزنًا حيث حلّت وحشة البعد وانفصال عن القدير. وصارت عبارة "موتًا تموت" هاجسًا لا يهدأ نهارًا ولا يسكت ليلاً!
وكانت خطية العصيان محرّكًا لنشاطات الشيطان، وعاملاً أساسيًا في تغيّر جميع الأمور الخيّرة في الأرض إلى مهاوي يصعب اجتيازها ويشقّ على بني الإنسان فعاليتها. فالحيوانات الأليفة صارت وحوشًا ضارية وآفاتٍ سامة. وصارت الطبيعة اللطيفة مظاهرَ عاصفة، وفيضانات جارفة، وزلازل مدمّرة، وحلّ الجفاف والقحط، ونشبت الحروب والصراعات فتحوّلت سهولة العيش إلى عُسرٍ، وروعة الطبيعة إلى اضطراب، وكثرة الموارد إلى عوز، وهدوء البال إلى انزعاج، وساد أفراد البشرية رغم تقدّمها الفنِّي والصناعي خوفٌ وارتباك وحيرة من الذي سيواجهه الناس في المستقبل الغامض، وصار الأسى والحزن عاملين يعتصران القلوب ولا سيما في أيامنا هذه بسبب كثرة فقدِ الأحبّاء واضطراب الطبيعة وما خلّفته جائحة "الكورونا".
ومنذ نشوء البشرية إلى يومنا هذا، يحاول غير المؤمنين أن يجدوا أفراحهم في السكر والبطر، والفسق، والإدمان، والعهر، والفجور، ولكنهم سريعًا ما يكتشفون أن هذه الأفراح زائفة مؤقتة، لا تلبث أن تتحوّل إلى حزنٍ عميق مما أدّى بكثيرين إلى الانتحار الذي تسمع عنه في كل مكان...
لكن كلمة الله الصالحة تعلن أن الإله الرؤوف الرحيم لم يترك خليقته التي سقطت بدسيسة الشيطان، بل أعدّ لها في المشورات الأزلية طريقًا للنجاة والخلاص بعمله الذي رتّبه بالتجسّد لأجل الفداء، فأرسل إشاراته إلى أجيال البشرية بواسطة الأنبياء فبدأت ومضات الفرح الحقيقي تشعّ لكثيرين ممّنِ اسْوَدَّ أمامهم أفق التحرّر مما هم فيه من بؤسٍ بسبب سيطرة روح الشر في العالم! وفي ملء الزمان حقّق الله وعوده وأرسل ابنه إلى العالم مولودًا من امرأة، ليفدي ويخلّص ويعطي الرجاء لقلوب البائسين. وفي ميلاده العذراوي العجيب هلّت أفراحٌ حقيقيّة لا زيف فيها ولا تضليل.
1- أفراح اللقاء
فقد فرح سكان الغبراء بهبةِ الله النازل من السماء فترنّمت أمه المباركة مريم قبل أن تبصره طفلاً في حضنها بقولها "تعظّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلّصي." (لوقا 46:1-47) والتقاه رعاة بائسون بشّرهم ملاك الرب قائلاً: "فها أنا أبشّركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب: أنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب." (لوقا 10:2-11) والتقاه سمعان الشيخ في الهيكل "أخذه على ذراعيه وبارك الله وقال: [الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدّام وجه جميع الشعوب." (لوقا 28:2-31)
2- أفراح الفداء
جاء المسيح إلى أرضنا لكي يتمّم عمل الفداء، مقدّمًا نعمة الله المجانية لجميع الذين يقبلونها بالإيمان، فتُغفر جميع خطاياهم التي يعترفون بها ويتوبون عنها، فيتمتّعون بفرح الفداء. فحين بشّر بولس وسيلا سجّان فيلبّي بالرب يسوع المسيح فقبل خلاصه بالإيمان، يقول الكتاب: "ولما أصعدهما إلى بيته قدّم لهما مائدة، وتهلّل مع جميع بيته إذ كان قد آمن بالله." (أعمال 34:16) وحين بشّر "فيلبّس وزير كنداكة ملكة الحبشة فقبل خلاص الرب بالفداء ثم عمّده بعد ذلك. يقول الكتاب: "ولما صعدا من الماء، خطف روح الرب فيلبس، فلم يبصره الخصي أيضًا وذهب في طريقه فرحًا." (أعمال 39:8)
3- أفراح الرجاء
جاء المسيح ليحيي فينا الرجاء بالخلود والحياة الأبدية. فأيوب الصدّيق بالرغم من تجربته الساحقة يقول: "أما أنا فقد علمت أن وليّي حيٌّ، والآخر على الأرض يقوم (نبوءة عن التجسّد الإلهي)، وبعد أن يُفْنَى جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله. الذي أراه أنا لنفسي، وعيناي تنظران وليس آخر. إلى ذلك تشتاق كليتاي في جوفي." (أيوب 25:10-27)
ويقول بولس الرسول بعد أن يعدّد الضيقات والاضطهادات التي أصابته: "لهذا السبب احتمل هذه الأمور أيضًا. لكنني لست أخجل، لأنني عالمٌ بمن آمنت، وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم." (2تيموثاوس 12:1) فليست أفراح الميلاد في مشهد مغارة، ومجوس، ونجم، ولا في شجرة مزيّنة وأنوار، ولا حتى في صورة طفل على رأسه هالة من نور في حضن أمه العذراء، فتلك جميعًا مظاهر خارجية ووسائل لأجل الأطفال.
إن أفراح المسيحي المؤمن هي في أن يلتقي مع الرب لقاءً شخصيًّا بالإيمان والتوبة ويملّكه قلبه، ويؤمن بغفران خطاياه بعمل الفداء، ويثق بأن له الرجاء الأسمى بالحياة الأبدية مع الرب. وكل عام وأنتم بأفراح الميلاد المجيد.