بعد إخراج لوط وزوجته وابنتيه من مدينة سدوم، قال الملاكان: "اهْرُبْ لِحَيَاتِكَ. لاَ تَنْظُرْ إِلَى وَرَائِكَ، وَلاَ تَقِفْ فِي كُلِّ الدّائرة. اهْرُبْ إِلَى الْجَبَلِ لِئَلاَّ تَهْلِكَ." (تكوين 17:19)
ونجد في قول الرّب للوط، وبلسان الملاكين أربعة أوامر واضحة ومباشرة. وعادةً يعطي الله أوامره للنّاس بدافع محبّته للعالم لأنه يريد الأفضل لجميع النّاس الّذين خلقهم. وهذه الأوامر هي:
1. اهرب لحياتك
يهرب الإنسان من مكان لآخر في حالة الطوارئ أو الخطر، أو للخروج من وضعٍ مؤلمٍ وقاسٍ ومزعجٍ وظالم إلى وضعٍ مريحٍ ولطيفٍ يسوده السَّلام والعدل. وأكثر حالات الهروب تتمّ في حالة تعرّض حياة النّاس لخطر الموت، مثل الهروب من حريقٍ أو طلقاتٍ ناريّة أو انهيار جبل جليدي أو سيّارة مسرعة. كذلك كثيرًا ما يهرب النّاس من السّجون والمعتقلات، أو من أماكن ودولٍ يتعرّض فيها النّاس للظّلم والاضطهاد والعنف والإرهاب. فعند مجيء خطر حقيقي وكبير لا يستطيع الإنسان مواجهته أو مقاومته، يكون الحلّ الوحيد في هذه الحالة هو الهرب للنّجاة بالحياة.
وفي حالة لوط، كان خطرٌ حقيقيٌّ وقاتلٌ على وشك ضرب مدينة سدوم وبقيّة المدن المحيطة بها. كان الرّب على وشك إهلاك المنطقة كلّها بالنّار والكبريت بسبب انتشار خطيّة السدوميّة وغيرها من الشّرور. ولأن لوط كان رجلًا بارًّا، فإنّ الله أراد أن ينقذه مع بقيّة أفراد أسرته من الخطر القادم. فما كان على وشك الحدوث هو موت ودمار، وكان على لوط الهرب بشكلٍ سريع، وإلّا فإنّه سيتعرّض للموت مثل بقيّة سكان سدوم. كان على لوط أن يهرب من الغضب القادم ليبقى على قيد الحياة، وكان عليه ألّا يتوانى في استجابته لأمر الله، بل أن يهرب حالًا وبلا تردّد، لأن الأمر كان قضيّة حياةٍ أو موت.
وهرب لوط من الموت والدّمار الّذي وقع على مدينة سدوم، ونجا بحياته. أي، إنّ الأمر كان يتعلّق أساسًا بحياة لوط وبقائه في هذا العالم. ولكنّ الهروب الحقيقي والّذي له نتائج ستبقى إلى الأبد، هو الهروب من دينونة الله العادلة والّتي ستحلّ على كلّ إنسان يرفض الله ويعصى وصاياه، ويرفض التّوبة وقبول المسيحِ ربًّا ومخلّصًا لحياته. فمن يختار البقاء في سدوم، أي في حالة الخطيّة بكلّ بشاعتها ونجاستها، سيدفع ثمنًا باهظًا وأبديًّا.
بعدما ابتدأ يوحنّا المعمدان خدمته في منطقة نهر الأردن في فلسطين، وإذ "رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَب الآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ". (متّى 7:3-8) أي دعاهم أولاد الأفاعي، أي جماعة الخطاة، وخصوصًا رجال الدّين الّذين ارتدّوا عن وصايا الله وتمسّكوا بتقاليد النّاس، وبرّروا أنفسهم بحياة التّدين المزيّف، فدعاهم إلى التّوبة والهروب من غضب الله الآتي عليهم. ثم أضاف يوحنّا قائلًا أنّ بعده سيأتي الرّب يسوع المسيح "الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ." (متّى 12:3)
يرمز القمح أو الزّرع الجيّد إلى المؤمنين بالرّب يسوع المسيح، أو بني الملكوت (انظر مثل القمح والزّوان وتفسيره في متّى 24:13-30؛ 36-43). أي أنّهم أولئك الّذين اعترفوا بخطاياهم، وتابوا من كلّ قلوبهم، وطلبوا من الله أن يقدّسهم بدم الرّب يسوع الّذي انسكب على الصّليب من أجل تبريرهم. في حين يرمز التّبن إلى الخطاة والأشرار. وفي حالة مدينة سدوم، كان كلّ سكانها، باستثناء لوط وأسرته، تبنًا يستحقّ الحريق. وعليه فإنّ طاعة الله والهروب من حياة الخطيّة هو الضّمان الوحيد للحياة الفضلى في العالم، وللحصول على الحياة الأبديّة. البقاء في حياة الخطيّة هو أكبر خطر وتهديد للإنسان، والهروب من الخطيّة بالتوبة والإيمان يعني الغفران والفرح والسَّلام والحياة إلى الأبد مع رب الحياة يسوع المسيح.
2. لا تنظر إلى ورائك
في التفكير البشري المحدود، يُعتَبَر طلب الله من لوط بعدم النّظر إلى الوراء مثيرًا للانتباه وملفتًا للنظر، فنحن نتوقّع من الله أن يطلب من لوط النّظر إلى المدينة لرؤية عظمة الله في إيقاع دينونته على سدوم، وكيف أنّه الله إله العجائب والمعجزات، ومن حيث أنه رب المجد والقدرة والسلطان ففي وسعه أن يُنزل نارًا وكبريتًا من السَّماء لمعاقبة أهل سدوم الأشرار. ولكنّ الله طلب منه عدم النّظر، فلم يكن هدف الله إظهار سلطته بقدر ما كان يهدف إلى إعلان غضبه وإنزال دينونته العادلة على خطايا وآثام سكان سدوم. كذلك أراد الله أن يحمي لوط وأسرته من رؤية الدمار والموت. أراد الله من لوط أن يخرج من سدوم، وأن يخرجها من عقله وفكره ومشاعره. أراد له بداية جديدة، ولذلك طلب منه عدم النّظر إلى الوراء حيث عالم الخطيّة والنّجاسة والسدوميّة. لقد أراد الله أن يتحرّر لوط من كل الذكريات العالقة في ذهنه من ألمٍ وعبوديةٍ وحربٍ وأسرٍ بسبب عيشه في سدوم، أرض الخطيّة. هذا يعني أن الله يريد من أيِّ واحد أن يتوب ويخرج من الخطيّة، وأَلَّا يعود إليها، وأَلَّا يسمح لأية فكرة تتسرّب إلى ذهنه وتقوده إلى العودة إلى الماضي المظلم. يريد الله أن نُثبِّت أعيننا على السَّماء، ولا ننظر إلى الوراء، لئلّا نتعثّر ولا نتمكَّن من متابعة المسير إلى الأمام. النّظر إلى عالم الخطيّة الذي تركناه قد يتسبَّب في إحياء شهوات وملذّات الجسد، وبذلك نرتدّ عن مسيرة الإيمان، ونخسر حياتنا إلى الأبد.
ومع أن وصيَّة الله كانت واضحة جدًا، إلّا أن زوجة لوط عصت الوصيَّة. نقرأ في تكوين 26:19 "وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْحٍ". لقد كانت مع زوجها البار، وسمعت وفهمت وصيَّة الله، وساعدها الملاكان على الهرب؛ ومع ذلك تعدَّت على الوصيَّة، ونظرت إلى الوراء، وهلكت نتيجة هذه النّظرة. لقد دفعت حياتها ثمنًا لخطيّتها، وأصبحت عبرة لغيرها على مدار الزمن. يقول الرّب يسوع في لوقا 32:17 "اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ". وجاء ذكر امرأة لوط في سياق حديثه عما جرى في سدوم أيام لوط، وكيف أن الله أمطر عليها نارًا وكبريتًا، وعن ضرورة عدم العودة للوراء عند وقوع دينونة الله (أنظر لوقا 28:17-32). كذلك يقول الرّب يسوع: "لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاثِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللهِ." (لوقا 62:9)
3. لا تقف في الدّائرة
طلب الله أيضًا من لوط ألّا يقف في سهل أو دائرة وادي الأردن حيث كانت تقع مدينتَيْ سدوم وعمورة وغيرها من المدن. وسبب هذا الطلب كان لأن الله كان قد أزمع على حرق كل مدن الدّائرة بنارٍ وكبريت. كانت منطقة مدن الدّائرة "جَمِيعَهَا سَقْيٌ" و "كَجَنَّةِ الرَّبِّ" (تكوين 10:13). أي أنّها كانت منطقة ماء وخصب وخضرة. ولكنها كانت أيضًا منطقة انحراف وظلم وسحق وسدوميّة. لذلك أراد الله من لوط أن يخرج منها بالرغم من مغرياتها. أي أن الله طلب من لوط أن يهرب من محيط المغريات والملذات وشهوة العيون، لأن نفس هذا المحيط هو مستنقع الخطيّة ودائرة الهلاك الحتمي ودينونة الله.
عندما يتوب الإنسان، عليه ألّا يعيش فيما بعد في الخطيّة، فالمؤمن قد بدأ رحلة الإيمان، وعليه ألّا يبقى في عالم الخطيّة. على المؤمن أن يضحِّي بكل شيء يعيق نموَّه في الإيمان. عليه أن يطلب من الله ويعمل جاهدًا للتخلُّص من خطايا مستترة في حياته، أو شهوات مهيمنة على قلبه. على المؤمن أن يعيش كالغريب والسّائح في هذا العالم، وألّا ينخدع بلذّاته الوقتيّة، "لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ..." (1يوحنا 16:2)
على المؤمن أن يهرب من دائرة الهلاك القادم على العالم، وأن يهرب بالروح إلى أبعد نقطة من دائرة الخطيّة وسلطتها، وأن لا تكون له شركة مع أعمال الظلمة، وألّا يسمح لنفسه أن تنغمس في ملذّات العالم، لأن العالم ماضٍ إلى الهلاك. لذلك أنظر إلى السَّماء حيث وطنك الحقيقي والدائم إلى الأبد.
4. أهرب إلى الجبل لئلا تهلك
طلب الله من لوط أن يصعد من مدينة سدوم الواقعة في غور الأردن، وهي أخفض منطقة في العالم، إلى منطقة جبلية. وعادة الهروب من مكان معين يعني اللجوء إلى مكان أفضل. الهروب يكون بسبب خطر قادم، واللجوء يعني الخلاص من هذا الخطر. وكان الخطر قادمًا على منطقة دائرة الأردن، وكان الجبل مكان السَّلام والأمان والحياة. كان على لوط الصّعود من وادي ظلِّ الموت إلى جبل النجاة.
يرمز الجبل عادةً إلى حياة الترفُّع عن الخطيّة وتركها. وقد كانت سدوم في وادي ظلمة الرّذيلة والنّجاسة والسدوميّة، لذلك كان تركها يتطلَّب الصّعود إلى جبل القداسة والنور والحياة.
يعيش الإنسان في الجبل بعيدًا في الروح عن ضوضاء العالم، ويستطيع أن يختلي مع الله في الصلاة. في الجبل يوجد نقاء وصفاء؛ ويعني روحيًّا التسامي عن العالم بكل ما فيه، بارتفاع القلب والعقل والنفس لتكون بالكامل في محضر الله. الهروب إلى الجبل يعني الهروب من الخطيّة واللجوء إلى الرّب يسوع لأنه هو صخرتنا وحمايتنا وملجأنا الوحيد.
أهرب من حياتك السابقة بقرارك وإرادتك وقلبك وعواطفك وكل أحاسيسك. أهرب إلى الرّب بالإيمان، واثقًا بكلمته ومصدّقًا مواعيده وقابلًا لإرادته، وملقيًا نفسك في بحر محبّتّه.