في أصل اللغة "غارَ يَغارُ غَيرةً فهو غيورٌ وغيران وهي غيور وغيرى." ويستخدم المصدر "غيْرة" ومشتقاته بمعنيين، ويمكن التمييز بينهما من سياق الكلام.
أولًا، ابتغاء ما للغير أو تشويهه وإتلافه وهي بهذا المعنى مرتبطة بالحسد.
ثانيًا، النخوة والحماس نحو الحسنى كالخدمة لله وللآخرين.
- ونتأمل في هذا الموضوع بشقِّه الأول وهو "الغيرة المرفوضة". يقول داود الملك: "لا تغر من الأشرار، ولا تحسد عمّال الإثم، فإنهم مثل الحشيش سريعًا يقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون... ولا تغر من الذي ينجح في طريقه، من الرجل المجري مكايد... ولا تغرْ لفعل الشر لأن عاملي الشر يُقطعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض." (مزمور 1:37، 7-9)
1- فالتحذير في العدد الأول ينصبّ على الغيرة من الأشرار وعمّال الإثم. والأشرار هم من يفعلون الشر، أو يفكّرون به في قلوبهم أو يتسبّبون به لغيرهم من الناس. وكلمة الله لا تعتبر الإنسان شريرًا لأنه يفعل الشر، ولكنه يفعل الشر لأنه شرير والشرّ متأصّل في داخله حتى أنه لا يقدر أن يفعل غير الشر. قال يسوع: "لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا رديّة، ولا شجرة رديّة أن تصنع أثمارًا جيدة." (متى 18:7)
فالشرير مهما كانت طائفته ومعتقداته وحتى نشاطاته الدينية، فجميع أعماله وأفكاره وتصرفاته مرفوضة لدى الله. ولا "يوجد إنسان" في منزلة بين المنزلتين ولا يكون المرء شريرًا أو بارًا نسبيًا. قال يسوع: "الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات، والإنسان الشرير من الكنز الشرير يُخرج الشرور." (متى 35:12) فالغيرة من الأشرار هي الرغبة في أن يكون المرء منهم يفكّر كما يفكّرون، ويرغب كما يرغبون، ويتصرّف كما يتصرّفون.
2- وفي العدد السابع يحذّر من الغيرة من "الذي ينجح في طريقه، من الرجل المجري مكايد." ومن كلمة الله في العهدين القديم والجديد نرى بشكل عام أن النجاح المادي لم يكن وليس هو مقياسًا لرضى الله، وإن كنا نجد استثناء من هذا المبدأ في "تدبير عهد الناموس" حيث جعل الله بعض الحوافز مشجعة لحياة البر والتقوى وكانت مجمل بركات الله لبني إسرائيل مادية زمنية مبنية على طاعة الوصية وذلك لكي يبقي الله لنفسه عائلات وأفرادًا ليأتي منهم النسل الموعود "الرب يسوع بالجسد". ولكن المبدأ العام هو أن الله بسبب كماله الأدبي وصلاحه المطلق فهو "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين." (متى 45:5) ولذا فإن رجال الله في العهد القديم كداود وآساف وغيرهم حذّروا من الغيرة من الأشرار ولو كانوا ناجحين زمنيًا. يقول آساف: "أما أنا فكادت تزلّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبّرين، إذ رأيت سلامة الأشرار." (مزمور 2:73-3)
3- ويحذّر من "الغيرة لفعل الشر" وهي الدرجة القصوى من الغيرة والحسد التي تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب أفظع الشرور لإرواء غيرته وحسده وإشباع غليله. فالذي تتملّكه الغيرة المرّة:
1- ينظر إلى حصّته فيجدها أقلّ من حصّة ذلك الشخص الذي يغار منه، فهو "ضمنًا" ينسب إلى الله قلّة العدالة ويبدأ برثاء الذات.
2- يفقد سلامه الداخلي ويصبح متقلقلاً نزقًا.
3- يصعب عليه الصفح والغفران ويواصل إدانة الآخر وطلب الحكم عليه، أو تشويه صورته.
4- قد يؤدي به الأمر في النهاية إلى توخّي قتل الآخر والتخلّص منه. إن الغيرة المرّة والحسد هما العاملان الأساسيان في كره رؤساء الكهنة اليهود للمسيح، ومحاولتهم التخلّص منه بأية وسيلة ممكنة، حتى أسلموه إلى الوالي الروماني طالبين الموافقة على صلبه بكل إصرار. فما الذي كان يغيرهم منه؟
1- تعليمه: فقد علّم بالمحبة والرأفة والمسامحة والتواضع وإنكار الذات، وكانت هذه توبّخهم باستمرار، ولا سيما تجاه الشعب الذي يقارن.
2- سلوكه: كان الرب يسوع يعيش كل ما يعلّم به ويطبّقه بكماله وكان هؤلاء غير قادرين على مجاراته بذلك تجاه عامة الشعب لكسب تقديرهم.
3- معاملته للعشارين والخطاة حيث اتهموه بأنه "محب للعشارين والخطاة" فبيّن لهم مقاصده السامية بقوله: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلّموا ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة، لأني لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة." (متى 12:9-13) وكان ذلك ضدّ سلوكياتهم، وبرّهم الذاتي المستحكم.
4- معجزاته الباهرة: من شفاء المرضى، وتطهير البرص، وتحرير المرتهنين للأرواح النجسة، وإبراء المقعدين، وفتح آذان الصمّ وتحريك ألسنة البكم، وفتح عيون العمي، وإشباع الجياع، وإقامة الموتى... فلنتصوّر بأنه لو وُجدت شخصية كهذه في بلدة أو منطقة من العالم اليوم فيا لسعادة تلك المنطقة! ولكنهم لغيرتهم وحقدهم فقد كانوا يعتبرون أنه كلما منح الرب الصحة أو الحياة أو التعزية لفرد أو جماعة من الشعب فكأنه يُنقص ذلك من رصيدهم الديني والأخلاقي!
لقد حاربوا معجزاته رغم كل الخير الذي جلبته للشعب جسديًّا ونفسيًّا وروحيًّا. فأثاروا ضدّه موضوع السبت. والأصل في شريعة السبت "أي يوم الراحة" هو الوصية الرابعة من الوصايا العشر التي تقول: "اذكر يوم السبت لتقدّسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك." (خروج 8:20-11) وقد مرّت شريعة السبت بمراحل ومستويات مختلفة حسب تفسيراتهم. وكان المتعارف عليه في زمن تجسّد الرب هو السماح بالسير مسافة "سفر سبت" أي حوالي ألف متر. وإجراء جميع الأمور الحياتية للناس ولحيواناتهم. ولم يمنع قط الكلام ولا حركة أعضاء الجسم.
فمثلاً يدوّن مرقس البشير قصة شفاء رجل كانت يده يابسة: "فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت لكي يشتكوا عليه. فقال للرجل الذي له اليد اليابسة: قم في الوسط. ثم قال لهم: هل يحلّ في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟ فسكتوا. فنظر حوله إليهم بغضب حزينًا على غلاظة قلوبهم. وقال للرجل: "مدّ يدك. فمدّها فعادت يده صحيحة كالأخرى. "فخرج الفريسيون للوقت مع الهيرودسيين وتشاوروا عليه لكي يهلكوه." (مرقس 1:3-6) فهو لم يمشِ حتى خطوة واحدة والرجل الذي شُفي لم يحمل حملاً ولا قام بعمل سوى مدّ يده.
- وإذا أخرج الرب شيطانًا أو روحًا نجسًا من إنسان بقوة لاهوته وبالروح القدس: "أما الفريسيون فلما سمعوا قالوا: "هذا لا يخرج الشياطين إلاّ ببعلزبول رئيس الشياطين." (متى 24:12) فقد اعتبروا روح الله روح شيطان فكانت تلك خطيّة "تجديف على الروح القدس" التي قال عنها الكتاب أنها ليس لها غفران الآن ولا في الدهر الآتي.
- وحين أقام الرب "لعازر من الموت بعد دفنه بأربعة أيام وعلم الفريسيون بذلك: "فجمع رؤساء الكهنة والفريسيون مجمعًا وقالوا: "ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن الجميع به، فيأتي الرومانيون ويأخذون موضعنا وأمتنا." (يوحنا 47:11-48) وحين كان في بيت عنيا بعد ذلك: "فعلم جمع كثير من اليهود أنه هناك، فجاؤوا ليس لأجل يسوع فقط بل لينظروا أيضًا لعازر الذي أقامه من الأموات. فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا، لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون ويؤمنون بيسوع." (يوحنا 9:12-11)
- وكانت الشرارة الأخيرة لإشعال نار غضب وحقد رؤساء الكهنة والكتبة على يسوع قضية تطهيره للهيكل. فقد أنشأ هؤلاء شراكة مع الذين يبيعون حيوانات الذبائح والصيارفة، فيظلمون الشعب لتحقيق أرباح كبيرة، وقد سمحوا لهم بممارسة هذه النشاطات داخل دار الهيكل، وقد قام يسوع بتطهيره مرتين: الأولى في بداية خدمته حين "فصنع سوطًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل، الغنم والبقر..."
أما المرة الثانية فكانت في الأسبوع الأخير قبل الصلب. فأخرج الجميع من الهيكل "وكان يعلّم قائلاً لهم: [أليس مكتوبًا: بيتي بيت صلاةٍ يُدعى لجميع الأمم؟ وأنتم جعلتموه مغارة لصوص.]" (مرقس 17:11) فقد استخدم نفس تحذيرات الوحي على لسان إشعياء النبي 7:56 وإرمياء النبي 11:7 ولكن هؤلاء لم يكونوا ليهتموا بالسماء وما توحيه بل تعلّقوا بالأرض وبما تعطيه لذلك فقد قبضوا على يسوع وقدّموه للمحاكمة زورًا وطلبوا من الحاكم الروماني صلبه. ولما أدرك بيلاطس أنهم أسلموه حسدًا وأنه لم يفعل شرًّا "أخذ ماء وغسل يديه قدَّام الجمع قائلاً: [إني بريء من دم هذا البار. أبصروا أنتم.] فأجاب جميع الشعب وقالوا: [دمه علينا وعلى أولادنا.]" (متى 24:27-25)
وفي ظنِّي لم ينجُ جميع هؤلاء وأولادهم بعد "خمس وثلاثين سنة" من العقاب والصلب على يد القائد الروماني تيطس، حسب مبدأ الزرع والحصاد. فالغيرة المرّة والحسد نار تأكل صاحبها قبل أن تأكل الآخرين. ليحفظ الرب جميع الذين تعرّفوا به من هذه الغيرة السيّئة.