"وفيما هما يتكلّمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته." (لوقا 15:24-16)
ترتكز المسيحية على عمودين عظيمين:
العمود الأول هو صليب الجلجثة، والعمود الثاني هو قيامة المسيح. وقد تحدّث رسول الأمم عن هذين العمودين فقال: "الذي أُسلم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا." (رومية 25:4) فالصليب هو الوسيلة التي بها استوفى العدل الإلهي حقّه من الإنسان الخاطئ، والقيامة هي دليل قبول الله لذبيحة الصليب.
والمشهد الذي أمامنا من أروع المشاهد بعد قيامة السيد، فنحن نرى اثنَين من التلاميذ عائدَين إلى قرية عمواس، وقد رسم الحزن خطوطَه الكئيبة على وجهيهما. وكانا يتحدّثان عن موت السيد على الصليب. "وفيما هما يتكلّمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما. ولكن أُمسكت أعينهما عن معرفته."
فمَنْ كان هذان الاثنان؟ لقد أكّد لوقا أن أحدهما اسمه "كليوباس"، فمن كان التلميذ الثاني؟ قال بعضهم: إن لوقا كان هو التلميذ الثاني، وقال آخرون بل كان أحد التلاميذ الآخرين. لكن هناك يقينًا يغمرني أن التلميذ الثاني لم يكن رجلاً بل كان امرأة... كانت زوجة كليوباس! وهذا اليقين لم يُبنَ على مجرّد التخمين، فإننا نقرأ في يوحنا 25:19 "وكانت واقفاتٍ عند صليب يسوع، أمُّه، وأُخت أمِّهِ مريم زوجة كلوبا (أو كليوباس)، ومريم المجدلية." ومن غير المعقول أن يرجع كليوباس إلى عمواس دون أن يأخذ زوجته معه، فيقينًا كانت زوجة كليوباس هي التلميذة التي كانت تسير إلى جوار زوجها.
وهناك سبب آخر يدفعني لهذا الاعتقاد، هو دعوة الاثنين للمسيح، وإلزامهما إياه بالمكوث معهما قائلَيْن: "امكث معنا لأنه نحو المساء وقد مال النهار." فمن المعقول أن يدعو رجل وزوجته شخصًا غريبًا للبقاء معهما، لكن من غير المحتمل أن يدعو رجلان شخصًا غريبًا، إذ من سيجهِّز لهم الطعام ويعتني بذلك الغريب؟!
كان كليوباس وزوجته في طريقهما إلى بيتهما في عمواس، وإذ بالثالث الغريب يقترب إليهما ويمشي معهما. ولنا في هذه المقابلة التاريخية عدة دروس:
1- الشك يملأ القلب حزنًا وكمدًا
لقد وصلت أخبار القيامة إلى كليوباس وزوجته، فقالا للرب: "بعض النساء منّا حيّرننا إذ كنّ باكرًا عند القبر، ولما لم يجدْنَ جسده أتين قائلات: إنهنّ رأين منظر ملائكة قالوا إنه حيّ." (لوقا 22:24-23) وكان يجب أن يصدّقا هذا الخبر السار، وأن يؤمنا بقيامة الرب كما وعد، ولكنهما لم يصدّقا الخبر فبان عليهما الحزن، وامتلكهما الكمد الأليم، والشك يملأ القلب حزنًا وكمدًا، و"طوبى للذين آمنوا ولم يروا."
2- يسوع يهتم بأحزاننا
اقترب الرب يسوع إليهما وقال لهما: "ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين؟" إن يسوع يهمّه جدًا أن يعرف أسباب آلامنا. يهمّه أن نقول له: لماذا نعيش في عبوس وكآبة؟ يهمّه جدًا ضيقاتنا إذ مكتوب عنه: "في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلّصهم."
3- فتح يسوع ذهنهما ليفهما ما كُتب عنه
كان يجب أن يكون هذا الرجل وزوجته أسعد اثنين يعيشان على أرضنا. لقد كانا يعيشان في فجر عهد جديد، وعالم جديد، ولكن الشك ملأ قلبيهما حزنًا، وكان العلاج الذي استخدمه السيد هو فتح ذهنيهما ليفهما النبوات التي كُتبت عنه "فقال لهما: [أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلّم به الأنبياء! أما كان ينبغي أن المسيح يتألّم بهذا ويدخل إلى مجده؟] ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما الأمور المختصّة به في جميع الكتب." وهنا نجد ختمَ المسيح على صدق العهد القديم، فقد تحدّث إليهما من موسى وجميع الأنبياء، وبهذا وضع ختمه على وحيِ العهد القديم.
كم كنت أتمنّى أن أكون مع هذين الاثنين، وأن أسمع الرب وهو يوضّح لهما معنى ذبيحة إسحاق، والحية النحاسية، وفرائض يوم الكفارة العظيم، وشرح الأصحاح 53 من سفر إشعياء، وتوضيح معاني المزمور 22 وغيرها من النبوات التي تتحدّث عن آلامه، وليتنا بعد كل هذا نهتم بدراسة هذا الكتاب العجيب الثمين.
4- ألهب يسوع قلب التلميذين
قال بعضهما لبعض: "ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلّمنا في الطريق ويوضِح لنا الكتب؟" وليس هناك شيء يلهب القلب أكثر من سماع كلمة الله من شخص ممتلئ بروح الله، يعرف كيف يفصّل كلمة الحق بالاستقامة، إن القلب عندئذ يلتهب بفرح، والعيون الداخلية تتفتّح لترى الحقائق اللامعة الساطعة.
5- ألزم التلميذان يسوع بالمكوث معهما بعد أن أثّر كلامه فيهما
"ثم اقتربوا إلى القرية التي كانا منطلقين إليها... فألزماه قائلَيْن: [امكث معنا، لأنه نحو المساء وقد مال النهار." ما أجمل هذه الكلمات! إننا نحتاج إلى السيد عندما يُقبِل المساء ويميل نهار الحياة.
عندما حضرت ساعة وفاة الملك جورج الخامس، زاره رئيس أساقفة كانتربِري وسأله هل يريد ترنيمة معيّنة، فقال له: أجل! رنّم لي الترنيمة القائلة:
أمكث معي يا سيدي فالغمر غطّى جسدي
والوهن قد أعيا يدي وليس لي من منجدِ
ونحن في مساء الآلام والأحزان، والوهن والضعف والمرض، نحتاج إلى هذا الثالث العجيب لكي يمكث معنا.
6- أعلن الرب نفسه لهما فعرفاه عند كسر الخبز: إنني أتخيّل زوجة كليوباس وهي تعدّ الطعام للضيف الذي ألهبت كلماته قلبها، إذ كانت من حين لآخر تتوقّف لتصغي إلى كلمات هذا الضيف... ويا لها من كلمات ملتهبة مؤثرة وعجيبة! وإذ تنتهي المرأة من إعداد الطعام ووضعه على المائدة، عندئذ يطلب كليوباس من ضيفه أن يشكر الله. ويرفع السيد يديه المثقوبتين وهنا يرى كليوباس وزوجته آثار المسامير... "فانفتحت أعينهما وعرفاه..." ثم اختفى عنهما... ليعلّمهما درس السلوك بالإيمان لا بالعيان... "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم." وحيثما نجتمع ونتحدّث عن الرب، فإنه يتنازل ويحضر معنا، ويعلن لنا ذاته الكريمة.
7- تدفعنا حقيقة القيامة للشهادة القويّة: عندما اختفى السيد عنهما "قاما في تلك الساعة ورجعا إلى أورشليم، ووجدا الأحد عشر مجتمعين، هم والذين معهم وهم يقولون: [إن الرب قام بالحقيقة وظهر لسمعان!] وأما هما فكانا يخبران بما حدث في الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز." لقد تبدّد حزنهما في ضوء القيامة، وزالت العبوسة من وجهيهما وصارا مبشِّرَين بإنجيل القيامة المجيد.
إن قيامة السيد هي عربون قيامة الراقدين في المسيح، كما يقول الرسول: "ولكن الآن قد قام المسيح وصار باكورة الراقدين." ولا نجد في الأرض كتابًا يحدثنا عن كيفية قيامة الأموات كالكتاب المقدس، أصغِ إلى كلمات بولس في هذا الخصوص: "لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: «كَيْفَ يُقَامُ الأَمْوَاتُ؟ وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟» ويجيب الرسول العظيم: "يَا غَبِيُّ! الَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ. وَالَّذِي تَزْرَعُهُ، لَسْتَ تَزْرَعُ الْجِسْمَ الَّذِي سَوْفَ يَصِيرُ، بَلْ حَبَّةً مُجَرَّدَةً، رُبَّمَا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَحَدِ الْبَوَاقِي. وَلكِنَّ اللهَ يُعْطِيهَا جِسْمًا كَمَا أَرَادَ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُزُورِ جِسْمَهُ. لَيْسَ كُلُّ جَسَدٍ جَسَدًا وَاحِدًا، بَلْ لِلنَّاسِ جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَلِلْبَهَائِمِ جَسَدٌ آخَرُ، وَلِلسَّمَكِ آخَرُ، وَلِلطَّيْرِ آخَرُ. وَأَجْسَامٌ سَمَاوِيَّةٌ، وَأَجْسَامٌ أَرْضِيَّةٌ. لكِنَّ مَجْدَ السَّمَاوِيَّاتِ شَيْءٌ، وَمَجْدَ الأَرْضِيَّاتِ آخَرُ... هكَذَا أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضَعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ... لكِنْ لَيْسَ الرُّوحَانِيُّ أَوَّلاً بَلِ الْحَيَوَانِيُّ، وَبَعْدَ ذلِكَ الرُّوحَانِيُّ. الإِنْسَانُ الأَوَّلُ مِنَ الأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الإِنْسَانُ الثَّانِي الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ. كَمَا هُوَ التُّرَابِيُّ هكَذَا التُّرَابِيُّونَ أَيْضًا، وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ هكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضًا. وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضًا صُورَةَ السَّمَاوِيِّ."
فيا أخي الحزين، ويا أختي الدامعة الباكية، سيأتي اليوم الذي يلبس فيه الراقدون في المسيح أجسادهم الممجّدة، ونحن الأحياء الباقين سنُخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء. في ذلك اليوم يمسح الرب كل دمعة من عيوننا والموت لا يكون فيما بعد وهكذا ترنّ في أصداء الأبدية موسيقى ترانيم المفديين.