من كتاب "عندما لا تُمطِرُ السَّماء" -2 للمؤلف فيليب يانسي من إعداد وتقديم الدكتورة ألينور نحَّات
إذا تابعنا معاملات الله مع البشر (الشعب القديم) نرى أنَّ هدف الله كان على مرِّ العصور هو إعادةُ الشركة معه. لكنَّه كثيرًا ما عاد يحصدُ خيباتِ أملٍ. فمثلًا ما أن صعد النبي موسى إلى جبل سيناء ليأخذَ لوحَيّ الشريعة وإذ أبطأَ، حتى طلبَ الشعبُ من هارون أن يصنع لهم عجْلًا ذهبيًا يعبدونه. فحزِن الرب. وحدثت أيضًا خيباتُ أملٍ كثيرة حين أرسل أنبياءَه لإيصالِ رسائله إلى الإنسان.
وإذا تتبَّعنا المسيرة وتوقَّفنا عند سفر أيوب، ذاكَ الرجل الذي كان يعيش في أرض عوص التي تقع في الصحراء العربية أو صحراء سورية شرقي فلسطين، نجدُ أنَّ الكتاب شهِد عنه بأنّه رجلٌ كامل ومستقيم يتَّقي الله ويحيدُ عن الشر. وفي ذات يوم جاء بنو الله ليمثُلوا أمام الرب وجاء الشيطان معهم وأراد أن يُحاجّ الله من أجل أيوب. وبعد أن حاوره سمحَ له أن يجرِّبَ أيوب بعد أن مدح الربُّ صلاحه ومحبته وتقواه. وقد كُتبت قصتُه في الكتاب المقدس لتكونَ لنا تعليمًا ودروسًا تعينُنا على مرِّ الأجيال. وحين أصابت التجارب أيوب وفقد كلَّ شيء حتى أولاده قال: "عريانًا خرجتُ من بطن أمي وعريانًا أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسمُ الربِّ مباركًا." (أيوب 21:1) لكن عندما طالتْ قصتُه وبدأ المرض يسري في جسده والقروح تعمل فيه ممَّا زاد من بليته، بدأ يشعر بأن الله مختبئ عنه. فقال أيوب: "لماذا تحجبُ وجهَك وتحسِبُني عدوًّا لك، أَتُرعِبُ ورقةً مندفعةً وتطاردُ قشًا يابسًا؟" (24:13)
لهذا سنتحدث عن السؤال: هل الله مختبئ؟ إنّ جلَّ مشكلة أيوب حين كان يتكلم مع أصدقائه، ليس أنه كان يتشكَّى من انهيار صحته ويرثي لفقدان أولاده وثروته وما حلّ به لكن لأنَّه كان يركّز على الموضوع المتمثّل في غياب الله. فما آلمَه أشدَّ الإيلام كان شعوره بأنَّه يصرخ يائسًا ولا يتلقّى أيةَ استجابة وكأنَّما الله أدارَ الظَّهر له بل اختبأَ عنه. وعندما أتى رفاقُه أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعماتي ليعزُّوه جلسوا معه على الأرض 7 أيام و7 ليالٍ ولم يكلّموه بشيء لأنّهم رأوا أنَّ كآبتَه كانت عظيمة جدًا. لكن بعدَ ذلك بدأ أيوب يتكلم وسبَّ يومه وتمنّى أن يموت ويذهب إلى القبر. بعدها بدأ أليفاز التيماني بالقول: "ادعُ الآن. فهل لكَ من مجيب؟ وإلى أي القديسين تلتفتُ؟ ... هوذا طوبى لرجلٍ يؤدِّبه الله. فلا ترفض تأديب القدير. لأنه هو يجرحُ ويعصِب. يسحقُ ويداه تشفيان." (1:5 و17) ولكنَّ أيوب أجاب أصحابه بعد أن سمعَ منهم فقال: "إن شاء أن يحاجَّه، لا يجيبُه عن واحدٍ من ألفٍ... هوذا يمرُّ عليَّ ولا أراهُ، ويجتاز فلا أشعرُ به... ليس بيننا مصالِحٌ يضع يده على كلينا." (3:9، 12، 33)
وعاد أليفاز فقال: "ألعلَّ الحكيم يجيب عن معرفةٍ باطلة، ويملأ بطنه من ريحٍ شرقيةٍ، فيحتجَّ بكلامٍ لا يُفيدُ، وبأحاديثَ لا ينتفعُ بها؟" (2:15) وهذا ما زاد من ألم أيوب. وهنا وصل إلى نتيجة قائلًا: "معزّون متعِبون كلُّكم!" (1:16) ولكن مع أنّ نفسه كانت مُرّة في داخله قال: "أما أنا فهل شكواي من إنسان؟"(4:21) وحين نصل الآية (1:28) يقول أيوب: "لأنه يوجد للفضة معدنٌ، وموضعٌ للذهب حيث يمحِّصونه." لقد أدرك أنَّ الله يجيزُه بالنار كما يمرِّر الصائغ الذهب فيخرج نقيًّا. وفي الحقيقة، دائمًا تكونُ عينُ الصائغ على الذهب والفضة لكي تخرجَ لامعة ويستطيع أن يرى وجهه منعكسًا عليها، عندها يطفئ النار لئلا تحترق. وكما يقول في 1بطرس 7:1 "لكي تكون تزكيةُ إيمانكم، وهي أثمن من الذهب الفاني، مع أنه يُمتحن بالنار." ولمَّا وصل أيوب إلى الذروة من الألم في أصحاح 38 وقبل أن يُبتلع من الحزن، أتاه الله من وسط العاصفة ليكلّمه فقال: "من هذا الذي يُظلمُ القضاءَ بكلام بلا معرفة؟ اشدُدِ الآنَ حقويك كرجلٍ، فإني أسألك فتُعْلِّمُني. أين كنتَ حين أسستُ الأرضَ؟ ... على أيِّ شيءٍ قرّت قواعدها؟ أو من وضع حجر زاويتها، عندما ترنَّمت كواكب الصبح معًا، وهتف جميع بني الله؟" (1-7) وعندما تحدّث معه الله لم يجبْه عن أسئلته، بل أظهر له ما عملَه مع بني آدم. ومن ثمَّ قال له: "هل يخاصمُ القديرَ موبّخَه؟ أم المحاجُّ الله يجاوبه؟" فسارع أيوب ليجيب: "ها أنا حقير، فماذا أجاوبك؟ وضعت يدي على فمي. مرة تكلمت فلا أجيب، ومرتين فلا أزيد." حينئذ أجابه الله: "الآن شُدَّ حقويك كرجل. أسألك فتعلِمُني." (4:40-6) أخيرًا قال أيوب: "قد علمتُ أنّك تستطيع كل شيء، ولا يعسر عليك أمرٌ. فمَن ذا الذي يخفي القضاء بلا معرفة؟ ولكنّي قد نطقت بما لم أفهم. بعجائب فوقي لم أعرفها... بسمعِ الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتك عيني. لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد." (1:42-5) قال هذا أيوب قبل أن يرد الرب سبي أيوب وزاد على كل ما كان له ضعفًا. وفي نهاية المطاف فُتحت عيناه وهو في وسط العاصفة واستطاع أن يرى بأن الله غير مختبئ بل يراقب كل شيء ويرى آلام أولاده. وتعلم أيوب الدرس.
الدرس الأول - الثقة بالله وهو عنّا ليس ببعيد
"لكي يطلبوا الله لعلّهم يتلَمَّسونه فيجدوه، مع أنه عن كل واحد منا ليس بعيدًا." (أعمال 27:17) وهذا يبرهن صحةَ ما قاله أحد رجال الله حين شبَّه المشهد بشخص في القارب ومعه حبلٌ مربوط بخطّاف إلى الشاطئ. وحين يصارعُ القاربُ الأمواج في ليلة عاصفة لا يجذبُ الشاطئ إليه بل هو ينجذبُ إلى الشاطئ. وكلَّما اقترب وبدأ يرى بصيص الأنوار شعر بالاطمئنان. هكذا نحن أيضًا حين نصلّي ليس لنُحضِر الله إلى عقولنا وقلوبنا، ولكن لنُحضر أنفسنا إلى الله. وهو ما شبَّهه الرسول بولس بالمرساة إذ قال: "نحن الذين التجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا، الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتَمنة وثابتة، تدخل إلى ما داخل الحجاب." (عبرانيين 18:6 و19)
وقال العالم باسكال قديمًا: "لو أنَّ كلَّ الأمور واضحة لدينا لما احتجنا إلى الإيمان." فالإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى." (أي محتَجَبة) وجاء في 1كورنثوس 12:13 فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغز، لكن حينئذ وجهًا لوجه." لقد مرّ الكثير من أولاد الرب بساعات شعروا فيها بيأسٍ وكأنما الله قد اختبأ عنهم. كتب سي إس لويس C.S. Louis في خضمّ غمّه الشديد بعد وفاة زوجته بالسرطان: "أين الله في وسط هذه الأشياء؟ أراه وكأنَّه يوصد الباب أمامي، وكلَّما طال انتظاري شعرتُ بأنه بعيد عني."
الدرس الثاني - في وسعِنا أن نقول لله أي شيء، أي أن نطرح عليه غمّنا، وغضبنا، وشكوكنا، ومرارتنا، وخذلاننا، وخيبتنا، وهو يستطيع أن يستوعب ذلك كلَّه، لأنه فيما هو قد أخذ جسد بشريتنا بشخص المسيح يقدر أن يرثي لضعفاتنا. حتى إنَّ عمالقة الكتاب المقدس الروحانيين جادلوا الله فعلًا فهم آثَروا أن يستمرّوا وهم يعرِجون مثل يعقوب (تكوين 26:32) على أن يتصدّوا لله ويبعدوه عنهم.
الدرس الثالث - هو أنَّ رؤيتنا تبقى محدودة: إنَّ رؤيتنا لِطَيف النور هي 30% فقط، بينما نحل العسل والحمام الزاجل يستطيعان التقاط موجاتِ الأشعة فوق البنفسجية غير المرئية لدينا فرؤيتنا للعالم الفائق الطبيعة محدودة. كان للنبي دانيآل مواجهة لطيفة مقارنةً مع مواجهة أيوب لاحتجاب الله. فقد تحيَّر دانيآل بشأن عدم استجابة الله له. وقد بقي 21 يومًا نائحًا، منقطعًا عن الطعام الفاخر، عائفًا اللحم. ومع أنَّه ابتهل إلى الله إلاَّ أنه لم يتلقَّ الاستجابة وكأن الله محتجب عنه ومختبئ. ثم بعد ذلك نال دانيآل ذات يوم أكثر مما توقَّع. إذ رأى في الرؤيا كائنًا فائقًا للطبيعة ظهر له فجأة على ضفة نهر دجلة فقال: "لم تبقَ فيَّ قوتي، ونضارتي تحوّلتْ فيّ إلى فساد ولم أضبط قوة." (10) وإذ حاول دانيآل أن يتكلم إلى الكائن الباهر لم يكدْ يقوى على التنفّس. ثم مضى الزائر ليشرح سبب تأخُّره فقد أُرسلَ استجابةً لصلاته الأولى تمامًا لكنه لقيَ مقاومة رئيس مملكة فارس (إشارة إلى الشيطان) ووقف مقابله ميخائيل رئيس الملائكة فأعان الملاك على اختراق المعارضة. إنَّ نظرةً واحدة لِما وراء الستار توضّحُ لنا عكس ما نظنُّه تمامًا. فالكون كلُّه يشبهُ الستارة الخلفية حيث يجري الكثيرُ من النشاطات التي لا نراها أبدًا. فعندما نتمسك بالله بعناد في وقت الشدة وعندما نصلي يمكن أن يكون الأمر منطويًا على أكثر بكثير عمَّا نحكم به أصلًا. وفي الختام أذكر هنا قرار هذه الترنيمة التي تقول:
خلفَ الغيمةِ، خلفَ الغيمةِ
ثق حبيبي أنَّ الشمس خلفَ الغيمة.
وأخيرًا لا بدَّ من ذكر القول هذا لـ يورغن فلتمن: "يبكي الله معنا حتى يُتاحَ لنا ذاتَ يومٍ أن نضحَكَ معه."