من أشهر الأبراج التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس برج بابل الذي أقامه نمرود وقومه بعد الطوفان.
وكان الغرض من تشييد هذا البرج هو تحدّي الله. ولقد استعان الإنسان في تحقيق هذا التحدّي بكل إمكانيّاته، ومهاراته وذكائه، ظنًّا منه أنه قادر على مجابهة الله والتطاوُل عليه. والواقع أن هذا الموقف لم يكن موقفًا جديدًا في تاريخ العلاقات الإلهية-الإنسانية، فالإنسان منذ عهد السقوط وهو يحاول أن يجدَ بديلًا عن الله يكون خاضعًا لنزواته وأهوائه البشرية.
أي، أن الإنسان سعى لكي يخلق لنفسه بديلًا عن الله يكون فيه هذا البديل منصاعًا لإرادة الإنسان، وفي هذه الحالة يضحى الإنسان هو الخالق والبديل هو المخلوق.
ولكن هذه النزعة كانت غطاءً مغريًا لواقع أليم لم يُدرك الإنسان أبعاده ولم يستوعب مراميه التي أسفرت عن نتائج رهيبة، ليس فقط على حياتنا الأرضية بل أيضًا امتدّت إلى ما هو وراء هذه الحياة.
منذ قصة السقوط استبدل آدم وحواء سيادة الله بسيادة الذات. لقد أرادا أن يصبحا مثل الله قادرَين على التمييز بين الخير والشر. يقول سفر التكوين 4:3 "فقالت الحية للمرأة: [لن تموتا! بل الله عالمٌ أنه يوم تأكلانِ منهُ (من ثمر الشجرة) تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفَيْنِ الخيرَ والشرَّ."
كانت هذه الهمسة الشيطانية هي الرغبة الأثيمة التي دغدغت قلبيهما، وأثارت في نفسيهما الطموح المدمّر لتحدِّي إرادة الله وأوامره. بل إن التمَحْور حول الذات كان البرج الأوّل الذي أقامه الإنسان في وجه طاعة الله. لقد عصى آدم ربَّه وغوي فسقط، وبذلك ضلَّ وأضلّ معه الجنس البشري بكامله لأن أبوينا الأوّلين كانا الممثلَين الطبيعيَيْن لذرّيتهما على مدى الدهر.
ونشهد مثل هذه الموقف في حياة نبوخذنصّر الملك إذ كان يتمشّى على سطح قصره في بابل ، قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتُها لبيتِ المُلكِ بقوة اقتداري، ولجلالِ مجدي؟" (دانيال 30:4)
لقد ظنّ نبوخذنصّر الملك أنه قد أصبح محور الدنيا وأن مملكته ستدوم إلى الأبد ولم يعزُ عظمته وانتصاراته ومجده إلى الله. إن ذاته أصبحت إلهه، وهذا ما جعله ينصب تمثالًا من ذهب، ارتفاعه نحو ثلاثين مترًا وعرضُه نحو ثلاثة أمتار، وأصدر أوامره لجميع الشعب أن يسجدوا لهذا التمثال. لقد خلق نبوخذنصر إلهه مما زاد من شعوره بالعظمة والسلطان. كان هذا برج القوة والسيادة، ولكنه كان برجًا مزيّفًا لأنه من صُنع الناس.
وهناك أيضًا برج الغنى والمال. وقد ضرب لنا الرب يسوع المسيح مثلًا رائعًا عن اللائذين بمثل هذا البرج، فأورد لنا قصة ذلك الغني الذي وسّع أهراءه، وزاد من مخازنه ثم قال لنفسه:
"يا نفسُ، لكِ خيراتٌ كثيرة موضوعة (مخزونة) لسنين كثيرة. استريحي وكلي واشربي وافرحي." (لوقا 19:12) وماذا كان موقف الله من هذا الغني الغبي؟ قال له: "يا غبي هذه الليلة تُطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟ هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنيًا لله." (لوقا 20:12-21)
ويقيم بعض الناس لأنفسهم أبراجًا من الشهوات والفجور، فتصبح هي معابدهم يؤمونها لارتكاب الموبقات، متحدين بذلك كل ما قدّسه الله من حياة العفة والطهارة. إن انغماسهم في لذائذهم برجٌ يتقون به، أو هكذا يظنون، فواجع الحياة ودينونة السماء. وكأن الله لا وجود له، أو أن برجهم هذا هو قلعتهم الحصينة التي تصونهم من مفاجآت هذا الدهر.
ويلجأ آخرون إلى برج الإلحاد قائلين في أنفسهم لقد مات الله وانتهى أمره أما إلهنا الآن فهو العلم والتكنولوجيا، له نتعبّد واليه نصلي، وفي هيكله نبتهل، وتناسوا أن الله هو خالق العلم والتكنولوجيا لأنه هو خالق عقل الإنسان وكل ما فيه من قوة إبداع ونزوع نحو الاكتشاف والمعرفة.
فإن كان برج بابل قديمًا تجسيدًا لكل تحدٍّ إلهي، وتمجيدًا للذات والقوة والسلطان والحضارة الملحدة، فإن ما نقيمه نحن اليوم من أبراج في حياتنا اليومية، وفي دواخلنا، وفي علاقتنا الاجتماعية، وفي موقفنا من الله لَأَكثر شرًا مما صنعه أصحاب برج بابل، وكأنما ما أصبناه من معرفة وما اخترعناه من مستحدثات، وما حقّقناه من أمجاد علمية ولّد في نفوسنا ذلك الشعور المتكبّر بعدم حاجتنا إلى الله.
أما الحقيقة فكل هاتيك الأبراج لا بدّ أن تتساقط واحدة إثر الأخرى:
برج الذات انهار أمام السقوط الإنساني.
برج العظمة والسلطان زال أمام التاريخ.
برج المال يفنى بفناء صاحبه.
برج الشهوات يموت مع آهليه.
وبرج الإلحاد يصبح أنقاضًا أمام حقيقة الأبدية.
ولكن هل يتلقّن الإنسان دروسه من واقع التاريخ الإلهي - الإنساني؟
أنت وحدك يمكنك أن تجيب.