Voice of Preaching the Gospel

vopg

"القزامة" ليست من الأحداث العادية المألوفة في الحياة الإنسانية وإن كانت غير مستحيلة. ولكن "القزامة" في جميع أشكالها ليست بالأمر المحبّب في معظم المجتمعات العالمية.

غير أن "القزامة" في معناها الأشمل هي ليست "قزامة" جسدية فحسب بل هناك "قزامة" روحية أيضًا. ولكن عندما تجتمع "القزامة" الجسدية "بالقزامة" الروحية تكون المصيبة أكبر وأدهى.
وأريد في هذا المقال أن أعرض بإيجاز إلى شخصية كتابية كان قزمًا روحيًا وجسديًا، ولكنه استطاع بفضل نعمة المسيح أن يتغلّب على هذين العائقين في حياته ويتحوّل إلى جبار قهر في ذاته كل نوازع الشرّ إذ استمدّ قوةً روحية من مصدر كل قوة، فصاغته من جديد ليصبح خليقة لا تمتّ بصلة إلى ما كان عليه سابقًا.
هذه الشخصية المدهشة هي شخصية زكا العشّار. ونحن نريد أن نتأمل أولًا في العقبات الروحية التي كانت تكبت فيه كل دوافع الخير، وتحدو به لكي يكون مستعبدًا لأطماعه الماديّة. فمن هو زكا هذا؟

1- كان عشاراً
كان أولًا عشّارًا يعمل في خدمة الإمبراطورية الرومانية؛ أي كان يجبي الضرائب من أبناء شعبه، ويدفعها من ثـَمَّ للسلطات الاستعمارية. وإذا أردنا أن نستخدم اللغة المعاصرة، نقول عنه إنه كان عميلًا للاستعمار الأجنبي. إن التقاليد اليهودية لم تكن تجيز لأبناء إسرائيل أن يدفعوا الضرائب للأجنبي أو أن يقوم واحد منهم بجباتها لحساب العدو. لهذا كان العشّارون مكروهين. ومتَّهمين بالخيانة الوطنية وعُرفوا بين أوساط الشعب "بالخطاة".
ولم تكن هذه هي التهمة الوحيدة التي رُموا بها، فقد اشتهر عنهم أنهم كانوا يسلبون الناس أموالهم ويرغمونهم على دفع الضرائب التي تزيد عن حدودها القانونية. ولم يُبالوا إن كان صاحب الجزية فقيرًا أم غنيًا. كان همّ الحكومة أن تحصل على الضرائب القانونية، وما عدا ذلك فهو من شأن العشّار والجابي. لهذا وجد العشّارون أنفسهم معزولين عن الحياة اليهودية الاجتماعية والدينية، يحتقرهم الشعب ويتفادى وجودهم، وقلّما كانوا يدخلون إلى بيوتهم لئلّا يتنجّسوا. لقد أثروا من مهنة الجباية وتمتّعوا بمظاهر الرفاهية، ولكنهم كانوا مرذولين كالأبرص.
ومن حيث أن علاقاتهم الاجتماعية كانت علاقات محدودة، فقد عاشوا، كما يبدو في فراغ روحي إذ كان يتعذّر عليهم المشاركة في العبادات الدينية، والاحتفالات السنوية. ولربما اضطروا أن يشكّلوا نقابة عشارين لكي يسدّوا هذا الفراغ الاجتماعي والديني. ولا شك أن موقف المجتمع من زكّا العشّار وأمثاله قد فاقم من حقدهم على الشعب وولّد في أعماقهم نزعة انتقامية تجسّدت في سلبهم لأموال الشعب مما زاد من غضب الشعب عليهم. حلقة مفرغة كانوا يعيشون فيها في مجتمع تقليدي متمسّك بالشريعة والطقسية، والشعائر الدينية.
لهذا كان زكّا قزمًا روحيًا يعيش في مستنقعات حياته الاجتماعية لا يجرؤ على التحرر منها لأنها أصبحت عالمه الوحيد الذي يستطيع أن يحيا فيه. الضمير متحجّر، والأشواق الروحية خامدة، والحسّ الإنساني قد اعتراه الموت.

2- كان قزماً جسدياً
كانت هذه مشكلته الظاهرة التي يعجز عن إخفائها. ربما كان في وسعه أن يحجب عن عيون الناس النوايا الداخلية الأثيمة التي كانت تتململ في صدره. ولعله كان في وسعه أن يتظاهر على غير حقيقته، ولكن عندما تكون المشكلة جسدية بادية للعيان، فإن مواراتها تغدو متعذِّرة. ولعل قصر قامته هذا كان سببًا من أسباب حقده على المجتمع، فهو عرضة للسخرية والتعليقات الخبيثة، ولربما كانت هذه السخرية هي السلاح الوحيد الذي كان في متناول الشعب للانتقام منه، فقسوا عليه، وأهانوه، فأحسّ بالذلّة والمهانة.
يشير الكتاب المقدس أن زكّا عرف أن يسوع قد جاء إلى أريحا فأراد أن يراه. لا شكّ أن زكّا كان قد سمع عن معجزات المسيح، وعن تعاليمه، وبلغت أذنيه الشائعات أو النبوءات عن المسيا المنتظر الذي سيأتي ليحرّر إسرائيل من عبودية الرومان، ولعله تساءل: أيمكن أن يكون هذا هو المسيّا مخلِّص إسرائيل؟ وإن صحّ هذا، فما الذي يحدث لي أنا العميل الروماني المتعاون مع عدوّ وطني؟ ويخيّل إليّ أن موجة من الخوف قد اعترته لأنه أدرك أن مصير كل خائن هو الموت.
ولكن يبدو لي أن هناك عوامل أخرى أخذت تستيقظ فجأة في أعماق زكّا. فهو على الرغم من كل شيء يهودي أولًا، ولشدّ ما يرغب أن يرى شعبه حرًّا يتمتّع بالأمجاد التي كانت له في عهدَي الملك داود وسليمان. إنه لا يريد أن يعيش على هامش الحياة ويظلّ رهين الخوف والرعب. إن كان حقًا هذا هو المسيا فلِمَ لا انضمّ إلى هذه الحركة الجديدة فقد أتمكّن من الحظوة برضى هذا "المسيا" وهو يستطيع أن يستخدم خبرتي في حقل جمع الضرائب والحسابات والإدارة. قد تكون هذه الهواجس قد راودت نفسه، أو قد يكون هو الفضول الذي حفّزه كي يحاول أن يرى يسوع. كل ما نعرفه حقًا أن أشواقًا غريبة قد استفاقت في أعماقه، ودفعته لكي يبذل جهدًا كي يرى يسوع. ولكن كانت هناك عقبات كبيرة تمنعه من تحقيق هذه الرغبة.

3- تخطَّى العقبات
كانت العقبة الأولى هي كثرة الجماهير المزدحمة. إن مجيء يسوع إلى أريحا لم يكن بالحدث العادي، فقد استطارت له شهرة في أرجاء إسرائيل فخرج أهل هذه المدينة لاستقباله إما بفعل الفضول، أو رغبة بالشفاء، أو طلبًا للاستماع إليه؛ فاكتظّت الشوارع بالجموع، ولم يتمكّن زكا من الوصول إليه.
أما العقبة الثانية فكانت "قزامة" زكا. إن جميع من كانوا حوله هم أطول منه بكثير، وحتى لو اقترب من المسيح فإنه لن يتمكّن من رؤيته لأن حاجز الرجال الطوال يقف حائلًا في طريقه.
ثم كانت هناك عقبة ثالثة هي عقبة موقف الشعب منه. فالجميع يعرفون من هو زكا العشار وقد ينتهزون هذه الفرصة فيطأونه بالأقدام ويقضون على حياته. إنه لا يستطيع أن يخفي حقيقة هويته عن الناس. فما العمل إذن؟
لم يكن زكا غبيًا، وأدرك آنئذٍ أن عليه أن يقوم بعمل جريءٍ قد يعرّضه للسخرية، ولكن، في نفس الوقت، يحقّق له غرضه فيتمكّن أن يرى يسوع. لقد عرف زكا أن يسوع لا بدّ أن يمُرّ في طريق معيّن لعلّه كان الطريق الرئيسي الوحيد في بلدة أريحا، وتذكّر أن هناك شجرة جمّيز على جانب الطريق، فأسرع في الخروج من وسط الجماهير وركض إلى شجرة الجمّيز سابقًا الجماهير، وتسلّقها، وجلس على غصن منها ينتظر مرور يسوع. وما لبثت الجماهير أن بدت له من بعيد يتقدّمها يسوع. ماذا أحسّ في تلك اللحظة، وأية مشاعر اختلجت في نفسه؟ لا أحد يدري، ولكنه بقي متجمّدًا في مكانه يحملق بهذا "المسيّا" ويتأمّل في قسمات وجهه وكأنه يحاول أن يقرأ ما يجول في خاطره.
هكذا تغلّب زكّا على عقبة القزامة الجسدية.

القزم العملاق
ولكن المشكلة الحقيقية كانت في القزامة الروحية. هنا حدث التدخّل الإلهي العجيب. عندما اقترب يسوع من الجمّيزة وتوقّف تحتها ورفع عينيه إلى أعلى، إلى حيث كان زكا منكمشًا على نفسه وخاطبه، بل ناداه باسمه وطلب إليه أن ينزل من عن الجمّيزة لأنه يريد أن يكون ضيفًا عليه في بيته.
في لحظةٍ انقلب عالم زكّا العشّار، وانهارت الحواجز التي شيّدها في نفسه، وتفجّرت في أعماقه رغبات لم يكن قد أحسّ بها من قبل. لقد حملته قوة ما على أجنحة خفية طارت به إلى عالمٍ غريب مدهش تراءت له فيه أبعاد لم يكن يحلم فيها. فأسرع كالمسحور ينزل عن الشجرة ومضى مع يسوع حيث استضافه وأقام له مأدبة؛ ومع يسوع دخلت الجماهير إلى بيت هذا العشّار المنبوذ المكروه. لقد رفع يسوع من مكانته في نظر الناس وتحوّل آنئذٍ هذا العشّار الخاطئ إلى شخص مؤمن بالمسيح، تبدّلت فيه كل أهدافه ونظرته إلى الحياة. وقد جسّد هذا التغيير في مواقفه من الأمور المادية، وأبدى كل استعداد أن يردّ للمسلوبين أضعاف ما سلبهم، وأن يعطي نصف أمواله للفقراء والمساكين، فكانت هذه التعبيرات المادية هي انعكاس صادق للتغيّر الروحي الذي أصابه.
وهكذا نهض هذا القزم من مستنقعات "قزامته" الروحية ووقف في وجه ماضيه كجبّار عملاق تحرّر من عبودية خطيئته، وتحوّل من زكّا العشّار إلى زكّا البارّ.
يا قارئي العزيز، إن يسوع قادر أن يجعل منّي ومنك ومن كلّ من يؤمن به عملاقًا يتحدّى ماضيه، ويغلب في حاضره، ويتمتّع بالمجد في أبديته.

المجموعة: أذار (مارس) 2022

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

253 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10673917