كانت الأعياد منذ القديم وما زالت إلى اليوم تُعتبَر مناسبات "سعيدة"، تتقاطع فيها الرغائب والتمنيّات، وتتباين الآراء والاعتبارات. فهي تبعث التوسّلات وتجدّد الأمس الذي فات!
فكلمة "عيد" هي مصدر بمعنى العودة، أو الرجوع إلى الماضي. وما أدراك ما الماضي؟! فهو للكثيرين كنزهم المخبوء وذخرهم المكنون. ومجيء الرب يسوع إلى ذلك العيد المقصود هنا، لم يكن لاستعادة ذكرى الماضي بل لإقامة ذلك الماضي من قبره العتيق وتجديد معناه بالعمل الوثيق... "فحمل الله الذي يرفع خطية العالم" كان قد أعدّ ذاته كأعظم ذبيحة كفارية شاملة عرفها هذا الكون. وفي ذلك العيد "فصحنا المسيح قد ذُبح لأجلنا."
يوثّق يوحنا البشير هذا القول الذي سمعه من قوم كانوا حاضرين في ذلك العيد لممارسة الفصح اليهودي في هيكل أورشليم بقوله: "وكان فصح اليهود قريبًا. فصعد كثيرون من الكور إلى أورشليم قبل الفصح ليطهِّروا أنفسهم. فكانوا يطلبون يسوع ويقولون فيما بينهم، وهم واقفون في الهيكل: [ماذا تظنون؟ هل هو لا يأتي إلى العيد؟" (يوحنا 55:11-56)
لقد أدركت قلة من هؤلاء بالروح أن عيدها لا يكتمل معناه إلا بشخصه المبارك، ولم يدرك الكثيرون منهم أنه هو "حمل الله الذي يرفع خطية العالم..." فكانت عيونهم إلى الذبائح الحيوانية التي كانت رمزًا لذلك الذبح العظيم! لذا فقد تباينت دوافع ذلك الشعب في طلب مجيئه إلى ذلك العيد. فهو صاحب العيد، وهو حمل الفصح المجيد. كانوا يطلبون يسوع:
1- لعظمة شخصه: فقد كان مطلبَ الكثيرين في كماله، ونقاء ناسوته، وحبّه، وحكمته، وصلاحه، وتواضعه، وقدرته الفائقة... لقد قرأوا ما كُتبَ عنه بالنبوّة: "لأنه يولد لنا ولد ونُعطى ابنًا، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيبًا، مشيرًا، إلهًا قديرًا، أبًا أبديًا، رئيس السلام." (إشعياء 6:9) وقيل أيضًا: "أنت أبرع جمالاً من بني البشر. انسكبت النعمة على شفتيك." (مزمور 2:45) وهتفت مرة امرأة من الجمع: "[طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما.] أما هو فقال: [بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه.]" (لوقا 27:11-28) فما أعظمه من شخصية لا مثيل لها!
2- بسبب روعة أقواله وكمال تعاليمه: ويعبّر عن بعضٍ من ذلك ما دوّنه لوقا البشير حيث قال: "وكان الجميع يشهدون له ويتعجّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه." (لوقا 22:4) وفي متى 5-7 نقرأ فيما يسمّى "الموعظة على الجبل" بعضًا من جوانب هذه الروعة وذلك الكمال. فمن من جميع أصناف البشر يستطيع أن يقول على سبيل المثال: "قد سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجب الحكم... ومن قال لأخيه: رقا، (أي تافه) يكون مستوجب المجمع، ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم." (متى 21:5-22) فالذي قال للقدماء "لا تقتل" هو الله نفسه وهي الوصية السادسة التي كتبها الله على لوحي موسى، ولا يستطيع أن يوسّع نطاقها أو يعمّق معناها إلا مَن كان له سلطان الله نفسه! وقد شهد له حتى الأعداء. فحين أرسل رؤساء الكهنة والفريسيون خدامهم ليمسكوه، لكنهم عادوا فاشلين. فقالوا لهم: "[لماذا لم تأتوا به؟] أجاب الخدام: [لم يتكلّم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان!" (يوحنا 45:7-46)
3- من أجل قدرته الفائقة وعظمة معجزاته: لقد "جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلّط عليهم إبليس." فقد كانت معجزاته الباهرة هادفة ومدبّرة بحكمة سماوية. فمنها ما كان لإعلان سلطان لاهوته لتثبيت إيمان تلاميذه كتحويل الماء خمرًا (يوحنا 1:2-11)، وملء شباك التلاميذ سمكًا (لوقا 1:5-11)، والمشي على وجه الماء (متى 24:14-32)، وإسكات العاصفة وتهدئة الموج (مرقس 35:4-41)، وإرشاد بطرس إلى قطعة نقود في فم سمكة (متى 21:17-47)، ومنها ما أجراه استجابة لطلب المؤمنين به من أية أمة كانوا كشفاء ابن خادم الملك الأممي (يوحنا 46:4-51) وشفاء ابن قائد المئة الروماني (لوقا 1:7-9)، وإقامة لعازر صديقه من الموت بعد أربعة أيام بناء على طلب أختيه (يوحنا 11)، وإعطاء البصر لـ بارتيماوس الأعمى الذي صرخ: "[يا يسوع ابن داود، ارحمني!] ... فأجاب يسوع وقال له: [ماذا تريد أن أفعل بك؟] فقال له الأعمى: [يا سيدي، أن أبصر!] فقال له يسوع: [اذهب. إيمانك قد شفاك]. فللوقت أبصر، وتبع يسوع في الطريق." (مرقس 46:10-52) وما طلبه أحد قط إلا استجاب طلبته وأنقذه مما هو فيه. ومنها ما أجراه لإعلان رحمة الله وحنانه على شقاء البشر، كإقامة ابن أرملة نايين من الموت (لوقا 11:7-18)، وشفاء مُقعَد بركة بيت حسدا (يوحنا 1:5-9)، وإبراء ذي اليد اليابسة (مرقس 1:3-5)، وشفاء كثيرين مرات عديدة منها ما ذُكر في متى 14:14 وإشباع الألوف من الجياع من خبزات قليلة وبعض صغار السمك (مرقس 33:6-44 ومتى 32:15-38). وذلك غيض من فيض لا يتسع له المجال هنا.
4- الذين طلبوه لأجل فدائه وقوة غفرانه: كثيرون من أفراد الشعب كانوا ينتظرون المسيّا وينتظرون فداء في إسرائيل وإن يكن شكل ذلك الفداء غير واضح المعالم. فحين ظهر الرب يسوع بعد القيامة لتلميذَي عمواس وسألهما عما كانا يتحاوران به من الأمور، "فقالا: [المختصة بيسوع الناصري، الذي كان إنسانًا نبيًّا مقتدرًا في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب. كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل.]" (لوقا 19:24-21)
وقد نال غفرانه المُقعد الذي قدّموه إليه على سرير يحمله أربعة رجال إذ قال له: "يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك." (مرقس 5:2) وغفر للمرأة الخاطئة التي جاءت من خلفه باكية في بيت سمعان الفريسي. وغفر للّص التائب على الصليب إذ قال له: "اليوم تكون معي في الفردوس." وأخيرًا غفر لصالبيه إذ قال: "يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون." (لوقا 34:23)
5- أما رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون فكانوا يطلبون يسوع لكي يحكموا عليه بحقدهم ويقتلوه: وكان مطلبهم الوحيد في العيد أن يعظّموا ذواتهم في تسلّطهم على الشعب وأن يسودوا على الأنصبة الكبرى من لحوم الذبائح التي تقدَّم في العيد، وأن يكثروا أرباحهم من أثمان الذبائح والتقدمات التي كانوا يمارسون تجارتهم فيها بالواسطة.
وأنا وأنت أيها القارئ الكريم، فما الذين نتوخّاه من ذكرى هذا العيد؟ هل أن نتقابل مع الرب من خلال التأمّل بصفاته الفريدة، وتعاليمه القويمة، وأعماله الرحيمة، وجميع هذه جيّدة وتظهر لنا جليًّا بمطالعة كلمة الله الكريمة، ولكنها لا تُغني النفس عن التمتّع بفدائه الجليل بالإيمان الصريح بموته الكفاري النبيل وقيامته المجيدة لتبرير المؤمنين به في كل جيل فجيل... أن نقبله ربًا ومخلّصًا في حياتنا وسيدًا على أفكارنا وتصرّفاتنا فهو من أجل هذا مات وقام. له المجد والإكرام.