رسالة رومية هي مركزية في كلمة الله لأنَّ فيها صورةً واضحة - وخاصة في الفصول الثمانية الأولى - عن عمل الخلاص الكامل بأبعاده الثلاثة.
فمن الفصل الأول وحتى الخامس من الرسالة نرى توضيحًا عن الخلاص بمعنى التبرير، أي الخلاص من دينونة الخطية بالإيمان بواسطة النعمة. ومن الفصل السادس وحتى الفصل الثامن نرى البُعد الثاني للخلاص ألا وهو التقديس. فالله لا يبرِّرك فحسب، بل يُسْكِنُ فيك روحه القدوس ويحرِّرك من تأثيرات الطبيعة القديمة حتى تعيشَ حياة المسيح المقدّسة على الأرض. وفي القسم الأول من الفصل الثامن يتكلّم عن البُعد الثالث الذي هو التمجيد أي حين نلبسُ الجسد الممجَّد، الجسد غير المعرَّض للوقوع في الخطية. وهذا ما يحدثُ حين نكون مع الرب إلى الأبد. إذًا ثلاثة أبعاد عميقة جدًا وهامة لكل واحدٍ منّا.
والآن يفصّل لنا الجزء الأول من الفصل السابع واقعَ أزمة كل إنسان. إذ يعطينا صورةً لواقع الإنسان بدون نعمة الرب أي بدون الولادة الجديدة وهو واقع العبودية: أي حين يظنُّ فيها الشخص أنَّه حرٌّ ولديه حرية القرار، لكنَّه لا يقدر إلَّا أن يخطئ. لأنَّه بعدَ سقوط آدم سكنتْ في الإنسان الطبيعة القديمة أي طبيعة العصيان، وأصبح يخطئُ بالغريزة. ولا يقدر أن يعيش بحسب مستوى وصايا الله. وهكذا يعيش هذا الشخص معاناةً دائمة بين الطبيعة المسيطرة عليه وعدوِّ الخير(إبليس) الذي يحرِّك هذه الطبيعة بجهاز التحكّم. وكما قلنا مرارًا فإنَّ هذه الطبيعة هي شهوانية وعدائية وأنانية وتسود على حياته. وعندما ترى هذا الواقع المرير في نهاية الفصل السابع لا بد أن تشعر بنوع من الكآبة تسيطر عليك. فتصرخ: مع الرسول بولس: "ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟" لكن بولس الرسول لم يتوقَّفْ هنا بل في الفصل الثامن يقودنا بالروح القدس إلى مسيرة الحرية في الولادة الجديدة وسكنى الروح القدس وقيادته. وهنا ترى يا أخي الحلَّ البديل كما يتوضَّح لنا معنى التقديس، أي الحياة التي يريدها الله أن تكون فينا، حياة النصرة في القداسة والطهارة، أي بكلامٍ آخَر حياة المسيح على الأرض. لكن قد يقول قائل: كيف يمكننا أن نحيا حياة المسيح هنا على الأرض؟ لقد دعانا له ، هذا هو الخلاص: "لكي يكونوا مشابهين صورة ابنه." (رومية 29:8ب) يريدنا أن نعيش مثله تمامًا أي نفس مستويات الكتاب المقدس المطروحة والتي تبدو مستحيلةً من الناحية البشرية. خذ مثلًا الموعظة على الجبل. الوصية مقدَّسة بكمالها. لكنَّها تبدو مستحيلة. إذ يقول الرب يسوع: "إنَّ كلَّ من يغضبُ على أخيه باطلًا يكون مستوجب الحكم... ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم... كل مَن ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه." (متى 22:5 و28) إذن كيف نقدر أن نعيش نحن بهذا المستوى؟ لنقرأ معًا بتمعُّن رسالة رومية 14:7-25.
"فإننا نعلم أنَّ الناموس روحيٌّ، وأما أنا فجسديٌّ مبيعٌ تحت الخطية. لأني لست أعرف ما أنا أفعلُه، إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أُبغِضه فإيَّاه أفعل. فإنْ كنت أفعل ما لست أريده، فإني أصادق الناموس أنه حسن. فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فيَّ. فإني أعلم أنه ليس ساكنٌ فيَّ، أي في جسدي، شيءٌ صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحُسنى فلست أجد. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإيّاه أفعل. فإن كنت ما لست أريده إيّاه أفعل، فلستُ بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة فيّ. إذًا أجد الناموس لي حينما أريد أن أفعل الحُسنى أنَّ الشرَّ حاضرٌ عندي. فإني أُسرُّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن. ولكني أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويَسْبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. وَيْحي أنا الإنسانُ الشقيّ! مَن ينقذني من جسد هذا الموت؟ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا! إذًا أنا نفسي بذهني أخدِم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطية."
1- مأساة الازدواجية والعبودية
حين يقول بولس الرسول أنَّ "الناموس روحيٌّ وأما أنا فجسديٌّ"، يعني به الطبيعة القديمة. وفي الفصل السادس من رومية يستخدمها أيضًا ويسمّيها الإنسان العتيق، الآدمي، أي طبيعة الخطية الساكنة فيَّ. خذ مثلًا الذئب، ما طبيعتُه؟ هو حيوان مفترس لذا فالافتراسُ جزء من طبيعته. هكذا الإنسان أيضًا بعد سقوطه. الطبيعة الجسدية أي SARX باللاتيني، وليس SOMA التي هي اللحم والدم. الجسد بمعنى جسد الخطية، الطبيعة الجسدية الميّالة للخطية SARX.
فبالرغم من المعرفة يتكلم بولس هنا عن تجربته، عندما كان شاول الطرسوسي بعد، ككل إنسان متديّن يعرف بعقله أنَّ الوصية صالحة وتعاليم المسيح صالحة. ألم يَقُلِ الشاب الغني للمسيح حين قال له احفظ الوصايا: "هذه كلُّها حفظتها منذ حداثتي." (متى 20:19) لكن رغم هذه المعرفة نرى الناس يخطئون لأنَّ الطبيعة القديمة مسيطرة عليهم وليس لديهم طبيعة جديدة.
ولا يعرف هذا الإنسان فقط أن الوصية صالحة، بل أيضًا لديه الإرادة لكي يعملَ بها. لكن، إذا لم يسكن فيه الروح القدس عن طريق الولادة الجديدة ويتّخذ خطوة الخلاص، حتى ومهما بلغَتِ الإرادة لديك أن تفعل الحُسنى فإنك لن تستطيع. خذ مثلًا الريجيم أي تخفيف الوزن، تقدر أن تصل إلى هدفك عن طريق الإرادة القوية. أما الأَشياء الأخلاقية فلا يمكن أن تحمي نفسك منها ولا من الأفكار التي تسيطر عليك إلا إذا حرَّرك المسيح. ففي العلن يمكنك أن تمثّل الإنسان الخَلوق كما تريد، أما في السر فلن تستطيع. لماذا؟ "ولكنّي أرى ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني، ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي." (23) لذا يصرخ بولس: "ويحي أنا الإنسان الشقي! من ينقذني من جسد هذا الموت؟" (24)
وهذا يقودنا إلى الجانب الثالث الذي هو بالرغم من العاطفة الصادقة لديّ بأنني أسرّ بناموس الله بحسب الإنسان الباطن، إلا أنني أيضًا لا أستطيع التطبيق بسبب الطبيعة القديمة المسيطرة عليَّ. فليس هناك من رادع، لذا صرخ هذه الصرخة المدوّية وتبِعها بـ "أشكر الله بيسوع المسيح ربنا! إذًا أنا نفسي بذهني أخدم ناموس الله، ولكن بالجسد ناموس الخطية." (24ب-25) وهذه هي الكلمة المفتاح: بيسوع المسيح ربنا.
فالذي يبدأ به الفصل الثامن من رومية الذي هو (أصحاح الحرية) يبرهن لنا أنه "لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع."
فكلّ إنسانٍ يعيش هذا الفصل بمراحل معيَّنة من حياته. وكلٌّ منا لديه مثاليات أخلاقية بغضِّ النظر عن دينه أو حتى وهو في إلحادِه. لاحظ مثلًا المجتمع الأمريكي، فعلى الرغم من أنه منحطٌّ أخلاقيًا، إلَّا أنَّ هناك قوانين ضدّ التحرّش الجنسي مثلًا، ونواميس وقوانين في كل المجتمعات أيضًا ضدّ التعدّيات. وفي الخمس والسبعين السنة الأخيرة ظهرت هناك موجة من الإلحاد. لماذا؟ تكلَّم عنها [سيغموند فرويد] الطبيب النمساوي المؤسِّس لعلم التحليل النفساني فقال: بأنَّ هناك Human Nature تنشأ عن آدميَّتِك وأسموها ID هذه هي الطبيعة العدائية الأنانية والشهوانية. ليست فقط شهوة الجسد فحسب بل تتضمن شهوة المال والمركز والسلطة وإلخ... والضمير الذي لدينا يقاوم الـ ID، وبناء على هذه المقاومة تنتجُ العُقَد. والصراع يستمرّ بين Super-Ego أي الضمير والطبيعة القديمة. لذا يقولون لك: ارتَحْ، ارتخِ! لماذا هذا الضغط الديني والاجتماعي، عشْ لنفسك، واعملْ كلَّ ما يُسرُّك.
نعم، هذا هو الواقع إذًا الذين نحن محاطون به. يشخّصون الوضع بشكل صحيح لكن ليس لديهم حلٌّ لك، لأنّهم يقادون بهذه الطبيعة الساقطة. لهم صورة التقوى كما يصفهم بولس: "لهم صورةُ التقوى، ولكنهم منكِرون قوَّتها. فأعرِضْ عن هؤلاء." (2تيموثاوس 5:3) وإذا عملوا حسَنات تكفِّر عن سيئآتهم نجدهم يعيشون الحياة المزدوجة أي، بالعلن شيء وفي السرِّ شيء آخر. لهذا قال الرب يسوع: "تحرّزوا لأنفسكم من خمير الفريسيين الذي هو الرياء." (لوقا 1:12) فهم من خارج كشواهد القبور الرخامية الجميلة "وهي من داخل مملوءة عظام أموات." ليس هذا فحسب، بل يدينون الآخرين لأنَّهم يعتبرون أنفسهم أفضل. أجل، هذا هو واقع الإنسان الدينيّ. أليس من هنا أتى التكفير؟ أوَليس كلُّ من يفكر أن حياته وسلوكه هما أفضل بكثير من الآخرين، وهكذا يحكم عليهم ويدينهم تابعًا أسلوب التكفير؟ فلنحذرْ إذًا.
في رومية 8 يدعوك الرسول إلى الحلّ. ويخبرنا أنَّ عدو الخير وضعَك في سجن. هل سمعت بقصة السجناء الستة الذين بعدما سُجنوا لمدة عشرين سنة في فلسطين استطاعوا أن يهربوا بعد أن حفَروا لمدة 9 أشهر نفقًا تحت الأرض بالملاعق التي خبَّأوها في جيوبهم؟ لكن للأسف لم تدُم حريّتُهم طويلًا لأنهم سرعانَ ما أُلقي القبضُ على خمسةٍ منهم بعد خمسة أيام فقط. وهكذا رجعوا من جديد إلى سجنهم. لهذا يقول بولس: "من ينقذني من جسد هذا الموت؟" أي من سجن العبودية. لكن، "لأنه من الداخل، من قلوب الناس، تخرج الأفكار الشريرة: زنى، فسق، قتل، سرقة، طمع، خبث، مكر، عهارة، عين شريرة، تجديف، كبرياء، جهل." (مرقس 21:7-22) لقد أعدَّ لك الله شيئًا رائعًا: "ما لم ترَ عينٌ، ولم تسمع به أذن، ولم يخطرْ على بال إنسان: ما أعدَّه الله للذين يحبونه." (1كورنثوس 9:2)
أجل، فهناك بديل لك ولي ولكل إنسان الذي يختبر نعمة المسيح. يقول لك الرب: أنا أحرِّرك منها وعندي الحلّ. إنه بديل الحرية والعتق من العبودية للخطية الساكنة فيَّ.
يتبع في العدد القادم