ليس دائمًا دربُ الحياة مفروشًا بالورود والرياحين. هكذا يقولون وهذا قولٌ صحيحٌ بالطبع. فهناك الحلوُ والمرّ، والجميلُ والقبيح، وفيه وفيها من المُفرح والمُحزن، المُبهج والمؤلم.
وأمامنا الجبالُ الشاهقة التي علينا أحيانًا أن نتسلَّقها وحين نفعلُ نشعرُ بالحرية والترفُّع والارتقاء تمامًا كما يشعرُ النسرُ حين يحلِّق فوقَ القِمَم فارِدًا جناحَيْه القويَّتين.
ويقابلُ الجبالَ العالية أوديةٌ سحيقةٌ لا بدَّ أنْ نجتازَها أحيانًا أخرى من جرَّاء التجارب الأليمة والمصاعب المحيِّرة التي تواجهُنا. ومراتٍ نتعجَّبُ إذ نجدُ أنفسَنا وكأنَّنا نطفو على سطح المياه حتى لتكادُ الأمواجُ العاتية أن تجرفَنا.
لكنْ، مهلًا أصدقائي، مع كلِّ هذا فالحياةُ بتنوُّعِها وتضاريسها المتعرِّجة تبقى تحملُ رونقًا عذبًا وتظَلُّ ذاتَ معنىً ومغزىً مختلفٍ إذا كانتْ مرتبطةً فعلًا بخالقها ومعطيها. وإزاء هذه الكلمات لا يسعُني إلاَّ أن أقتطعَ أجزاءً من حكايتي مع الحياة لأشاركَها معكم عساها تذكِّرني وأنا أجتاز محنةً جديدةً الآن، بمَن قادَني فيها عبرَ السنين فكان رفيقًا أمينًا محبًّا وراعيًا في كل الظروف والأوقات بغضِّ النظر أينَ كنتُ فيها أَفي أعالي الجبال أم في الوادي العميق. أجل، فهو الذي وقف معي وقوَّاني فكيف لي أن أنسى! لذا إليكم بعضٌ من كلّ وقليلٌ من كثير، وغيضٌ من فيض، عساه يُحيي الشجاعة فيّ ويعيدُ الأمل من جديد لكم ولي فلا ننسى القدير الذي بيده التدبير.
في العام 1976 حازَ زوجي على مِنحةٍ دراسيَّة في إحدى كليات اللاهوت في إيرلندة الشمالية. وإذ كانت رَحى الحرب الأهلية مستعرةً في لبنان، قبِلْنا المنحةَ وتوجَّهنا إلى إنكلترا ومنها إلى بلفاست عن طريق مطار دمشق الدّولي بسبب أنَّ مطارَ بيروت كان لا يزالُ مقفلًا. وأقمنا هناك على الرَّغم من أنَّ بلفاست لم تكن آمنةً حينذاك بسبب ما يجري فيها من تفجيرات لكنَّها بدت وكأنها (لعبة أو نزهة) إذا ما قورنتْ بالوضع في بيروت. وقضينا سنةً دراسيةً كاملة كانت بالحق من أجمل سني حياتنا. فالشعبُ الإيرلندي شعبٌ طيِّبٌ ومضيافٌ فما بالُكَ بالإخوة المؤمنين في الكنيسة!
قيلَ لنا حين وصلْنا إنَّه علينا أن نذهبَ إلى قسم الشرطة لكي نسجِّلَ أسماءَنا ونحصلَ على إقامةٍ للمدة التي سنبقى فيها في إيرلندا. وحين سألْنا أصدقاءنا عن الموضوع قالوا لا داعٍ لفعلِ ذلك، فأنتَ يا شكري طالب وستبقى هنا هذه السنة الدراسية فقط حتى ربيع 77. ولكن وبعد مضي أربعةِ أشهرٍ وصلتْنا رسالة من قسم الشرطة يخبرونَنا فيها بأنَّه من الواجب الحضور إلى مركز الشرطة في قلب المدينة في بلفاست. فذهب زوجي وتعرَّض عندها للاستجواب، وقال له أحدُ الموظفين: أنتَ ارتكبتَ خطأ فادحًا لأنَّك أهملتَ الموضوع. والآن لا نعلم ماذا سنفعلُ بك ربَّما سنضطَّر إلى إيقافكَ للتحقيق معك أو ربَّما أيضًا ستتعرَّضُ للسجن. خافَ زوجي واضطرب بالطبع. ولكن ما هي إلَّا لحيظات حتى تدخَّل المسؤولُ الأكبر في قسم الشرطة الذي كان يسمع الاستجواب القائم وقال لزوجي: تفضَّل إلى مكتبي أريد أن أتحدَّث معك. ولمَّا فعل، قال له: علمتُ أنك طالب، ماذا تدرس؟ قال له: إننَّي أدرسُ في كليّة اللاهوت التابعة (للكنيسة المُصلَحة). عندها سأله: أنتَ إذن مسيحي. قال زوجي: نعم. فباحَ له رئيسُ مكتب الشرطة وقال: أنا أيضًا مسيحي مؤمن وعضو في الكنيسة المعمدانية هنا في بلفاست. لا داعي للقلق يا أخي، لَسوفَ أساعدُكَ في إملاء الطلب المطلوب. وهنا، تنهَّد زوجي الصَّعداء وقال: أشكرُك على حُسْن صنيعك معي. وبعد الانتهاء من ذلك قال له سأرسلُ لكَ الإقامةَ بالبريد. شكَرهُ زوجي وعادَ إلى البيت وأخبرني بكلِّ ما حصل ومن ثمَّ أضاف: وكأن الله أرسل ملاكَه في تلك اللحظة لمساعدتي.
وما هي إلا أيّامٌ قلائل وقبلَ أن تنتهي سنة 76، إذا بنا نرى من النافذة رئيسَ الشرطة بنفسه يلوِّح لنا بالمظروف ويقولُ في أيِّ طابق شقتُكم؟ قلنا في الطابق الثاني. وأسرعنا وفتَحْنا له الباب ونحن متلهِّـفان لرؤيته. نعم، فلقد أتى هو بنفسه لكي يعطيَنا الإقامة لأنَّه خافَ أن يتأخّر البريد وتصلَ الإقامة بعد انتهاء السنة. وحدَّثنا عندها مطوَّلا بينما نحن نحتسي القهوة معًا وقال: سألتُ مرةً أحدَ الطلاب الآتينَ للدراسة وقلت له: هل أنتَ مسيحي؟ قال: نعم، بالتأكيد. لكنَّني لم أرَ أية علامات على إيمانه هذا. فسألْته من جديد وقلتُ: هل تعرف (يوحنا 16:3) قال لي على الفور: لقد سمعتُ باسم يوحنا لكنْ لا أعرفُ أين يسكُن! فضحِكْنا جدًا على جواب الطالب وأوضحْنا له فيما بعدُ أنَّه عندما يقول البعض في الشرق الوسط عن أنفسهم بأنهم مسيحيون يعني ذلك أنهم ليسوا من الخلفية الأخرى. وبالطبع هذا لا يعني أيضًا أنَّهم يقرأون الكتاب المقدس أو يدرسونه أو يسلكون بموجبه. وفي نهاية الزيارة تمنَّى لنا التوفيق وودَّعنا وذهب مشكورًا. عندها قلت لزوجي: فعلًا لقد أرسل الرب رئيسَ الشرطة نفسَه لكي يكون الملاك الحارس لنا نحن أولاده في ديار الغربة. أرسله لينقذَنا. وفاضت مآقيَّ بالدموع، ووجدت نفسي أعود لأردِّد كلمات الترنيمة التي كنت أحبُّها جدًا:
"أنا لستُ وحدي في الطريق أبي يمشي معي
يحفظُني من كلِّ ضيق، يمسحُ أدمُعي.
فهو المعزّي والرفيق في ضعفي يرثي لي
يُقوِّني يعينُني ويبقى دومًا لي
أنا لستُ وحدي في الطريق أبي يمشي معي
لن أرهبَ ولن أضيق برغم أدمُعي..
لن أمشي وحدي في الطريق، أبي يمشي معي
يا فرحتي يا بَهجتي، فهو دومًا معي
أبي دومًا معي."
ثم ماذا تراني أقول؟ نعم، إنَّ للقصة بقيّة. لأنه إبَّان رجوعِنا إلى لبنان في الأول من أيار 77، وجدْنا أنَّ الشقة التي كنَّا نقطنُ فيها في حيّ الأشرفية قد احتُلَّت من قِبَل أحدِ الجيران الذين سلَّمناهم مفتاحَها لكي يلجأوا إليها في حال حدوث أيِّ قصف إذ كانت في الطابق الأول من العمارة. وعند لقائِنا معهم قالوا: بالحقيقة نحن نحبُّكم يا جيران، لذلك حفِظْنا لكم أثاثَ البيت وكلَّ حاجياتكم ووضعناهم جانبًا. شكرناهم على محبتهم الغالية والواضحة! وقضينا شهورًا عديدة من بعدها نُعتبَر لاجئَيْن في بيت عمي (أي أهل شكري) إلى أن تدخَّل الله وأكرَمنا وبطريقة عجيبة بشقة واسعة وفي الطابق الرابع وبنفس بناية بيت عمي. في الحدَث. عندها قلت: شكرًا يا رب لأنَّك عظيم في أمانتك. ورحتُ أردِّد وأقول فعلًا:
فاقَتْ أمانةُ ربي الأوصافَ لا تتغيَّر ولا تَحول
دومًا يجدِّد لنا الألطافَ لا تتبدَّلُ ولا تَزول
أجل، غيضٌ من فيضٍ وبركاتٌ أخرى أتذكّرها من ناحية الخدمة الإذاعية أيضًا وهي تلك الفتاة المستمعة لبرنامجنا الإذاعي والتي كتبتْ لنا رسالة مطوَّلة من السعودية ومن مكّة المكرمة بالذات لتقول لنا فيها: هذه رسالتي إلى برنامجكم الموقَّر "مشوار المساء" الذي أستمعُ إليه كلّ ليلة. فالمذياع مخبّأٌ تحت وسادتي في غرفتي الخاصة بي. أنا أسكنُ في قصرٍ كبير، وأعيشُ حياةَ الرَّخاء والنِّعم الكثيرة. لكنَّ داخلي وحنايايَ لا زالتْ تفتّشُ عن مَلءِ الفراغ الكبير فيها. هناك شيءٌ ما ينقصُني لا أعلمُ ما هو بالضَّبط. ومن خلال استماعي لبرنامجكم صرتُ أشعرُ بتغييرٍ في داخلي. وبدأتُ أصارعُ أفكارًا في رأسي غريبةً عن إيماني وديني، فخفتُ. وخرجتُ إلى الحديقة أتمشّى في إحدى الليالي وصرتُ اسأل ربي وأقول: مَن أنت يا ألله؟ مَن تُراهُ الإله الحقيقي أهو إلهُ اليهود أم المسيحيين أم المسلمين؟ وطلبت وبحرقةِ قلبٍ قلت: أسمعْني صوتَك أظهِرْ لي ذاتَك أجبْني عن سؤالي إنْ كنتَ موجودًا بالحق. ودخلتُ بعدَها إلى غرفتي وأدرتُ المذياع وإذا بالمرنّم يتغنَّى بأنشودةٍ جميلة ويقول:
قصةُ الحبِّ العجيب قد تجلَّت في الصليب
قد رواها لي حبيبي ساعةَ الصمت الرهيب.
وهو مسحوقُ الفؤاد وهو مجروحُ الجبين،
قد رواها لي حبيبي بالدَّم الغالي الثمين.
أيُّ حبٍ قد تناهى مثلُ حبِّه العجيب؟
أيُّ حبٍّ مثلُ هذا قد بدا بعدَ الصليب؟
وهنا تابعتِ الفتاة تقول في رسالتها: "عندها خررْتُ على ركبتيَّ وطلبتُ من يسوع هذا صاحبِ قصة الحب العجيب أن يملأَ قلبي ويُروي نفسيَ الظَّمأى من بحرِ حبِّه الواسع ويغطِّي عيوبي بدمه الذي جَرى على الصليب. وتحقَّقتُ عندها أنَّ هذا كان جوابَ السماء لسؤالي. وبعدَ عدة أشهر شاركتُ اختباري هذا مع أختي وابنتها فطلبتا من إله السماء إله الحب والغفران أن يمنحَهما سلامًا في قلبيهما. نعم يا إخوتي، نحنُ الآن ثلاثةٌ في العائلة نستمع إلى برنامجكم ونصلّي معًا بالسرّ كلَّما سنحتْ لنا الفرصة."
عندها رحتُ أردِّدُ وأقول:
أنتَ عظيمٌ عظيم، عظيمٌ يا ألله،
عظيمٌ في أمانتك، عظيمٌ في محبتك،
عظيمٌ في تحريرك، عظيم أيضًا في شفائك
هذه أصدقائي لمَحاتٌ ومقتطفاتٌ سريعةٌ تشهدُ عن معيَّة الله لأولاده وعن عمله في قلوبٍ تبحثُ عنه لأنَّه وحده الأمينُ والقادر أن يغفرَ، ويرحمَ، ويُشفقَ، ويتحنَّنَ، ويخلِّصَ، ويُنقذَ، وينجِّي، ويرفع. نعم يا إخوتي، هذا غيضٌ من فيض وقليلٌ من كثير عن أمانة الآب السماوي التي فعلتْ وما زالتْ تفعلُ ولا يسعني إلا أن أنشد مع النبي داود وأقول:
"باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته." (مزمور 2:103) وله الشكر على الدوام وكلُّ عيد شكر وأنتم بألفِ خير.