(تتمة لمقال العدد السابق)
2- الربُّ ملجأُ الأتقياء
تذكَّر عزيزي القارئ بأن الله لنا ملجأ وقوة في هذا الزمن المتزعزع.
قال أحد الأصدقاء معلّقًا على الزلزال الذي شعر به السكان في لبنان أيضًا: "نحن بدون زلزال نهتزّ". ويقال بأنَّه في شمالي سوريا لم تكن المباني مجهَّزة لتتحمَّل الهزّات الأرضية، لذلك تصدَّع الكثير منها وسقط. وفي لبنان طُلِب من المهندسين منذ العام 2013 أن يقوموا بإضافة (صيانة للمباني) لحفظها من الهزّات. فقاموا بزيادتها على الخرائط فقط دون أن يطبِّقوا ذلك على أرض الواقع. إذ دفعوا رشوة أو (إكرامية) كما يسمّونها لكي يتمّ التوقيع والموافقة عليها. وهكذا تصرَّفوا كَمَن يسخر من نفسه لأنهم لم يؤمّنوا الحماية اللازمة للأبنية في حال وقوع زلزالٍ قويّ. أما ملجأ المؤمن الحقيقي فهو اسم الرب البرج الحصين الذي يركض إليه الصدّيق ويتمنّع.
لهذا يقول لا ترتاعوا. لأن: "الله لنا ملجأ وقوة، عونًا في الضيقات وُجد شديدًا. لذلك لا نخشى ولو تزحزحتِ الأرض، ولو انقلبتِ الجبالُ إلى قلب البحار. تعِجُّ وتجيشُ مياهُها. تتزعزعُ الجبالُ بطموِّها." (مزمور 1:46-3) نعم، لذلك لا نخشى. كتب الجيل الجديد من بني قورح هذه التسبيحة يشهدون فيها عن حماية الرب لهم حين تزحزحت الأرض. ولم يتصرَّفوا كأجدادهم الذين قاوموا موسى في القديم فانشقَّت الأرضُ وابتلعَتْهُم وهم أحياء. (سفر العدد 16) فليتنا نحتمي فعلًا في الرب، هذا البرج الحصين وندعو الآخرين إليه لأنَّ الوقت منذ الآن مقصّر لذا لا تؤجِّل. هذا نداء لكلِّ الناس أن يأتوا ويحتموا به. في متى 24 يتكلّم عن أنَّ محبة الكثيرين ستبرد. أمَّا الذي يصبرُ إلى المنتهى فهذا يخلُص. أي يخلُص من الغضب الآتي. لسوف نرى أشياء كثيرة تحصل مثل زمن نوح، الظلم يستشري. وأيضًا مثل زمن لوط، إذ تميَّزت سدوم وعمورة بالنجاسة. لهذا يقول (أما النجس فَلْيتنجَّس بعد). ألا نرى النجاسة تزداد وتنتشر وكذا الشراسة والعنف والحقد في هذا الزمن الذي نعيش فيه؟ لهذا أقول وخاصة للشباب: احفظوا أنفسكم طاهرين.
3- أبناءٌ غرباءْ ونُزلاء
كتب بطرس مسوقًا من الروح القدس هذه الكلمات:" أيُّها الأحباء أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس. (1بطرس 11:2) وهنا لا بدَّ أن أعرّفكم أنه في منطقة كسروان الجبلية المعروفة بجمالها في لبنان، يوجد مَن يأتي من مناطق أخرى ويشتري أرضًا له ويبني فيها بيتًا سرعان ما تتوارثه الأجيال من بعده. لكنَّ أهل كسروان يظلُّون يُطلِقون عليه وعلى أحفاده من بعده "الغريب"، أي ليس من أهل البلدة. وهنا أيضًا في هيوستن، وبينما كنت أعالج أحد المرضى من (رعاة البقر) وأقول له: نشكر الله على سلامتك فشفاؤك من الالتهاب كان معجزة فعلًا. فَسُرَّ وقال كلامك ظريف، وصار يبكي. وبعد ذلك سألني: "من أين أنت؟" فقلت له: "من هيوستن. أعيش فيها منذ أكثر من 34 سنة." ولما بدت عليه علامة التعجّب قلت: "الأصل من لبنان." نعم، غريب. هكذا يريدنا الرسول أن نعيش على هذه الأرض كغرباء. "فإنَّ سيرتنا نحن هي في السماويات، التي منها أيضًا ننتظر مخلِّصًا هو الرب يسوع المسيح." (فيلبي 20:3) ومعنى هذا أننا من الناحية الأخلاقية والروحية لا ننتمي إلى هذه الأرض. لسنا غرباء فحسب بل قال أيضًا نزلاء: فإن كنت نزيلًا فهذا معناه أنَّ بيتك الذي تقيم فيه ليسَ هو بيتك النهائي. بل أنت نزيلٌ فيه. تمامًا كما يحِلُّ النزيلُ في الفندق، إذ يظلُّ نزيلًا مهما طالت مدّة إقامته.
قال رجل الله المعروف Aiden W. Tozer "إن الكنيسة الأولى كانت تنظر إلى العالم الحاضر باعتباره أرض معركة ولا يمكن للمؤمن أن يكون محايدًا فيها. بالنسبة لآبائنا كان الاختيار هو إما الله أو إبليس، الحياة أو الموت، السماء أو الجحيم. لم يَنشدوا راحةً على هذه الأرض ولا توقَّعوا فيها سلامًا. كانوا يؤمنون بأنَّ سلامَهم سيكون حين يتركون الأرض ويذهبون إلى بيت الآب حيث المسيح جالس. عندئذٍ فقط يمكنهم أن يطرحوا سيوفهم ويكفُّوا عن الحرب الروحية. لكنهم لطالما لم يرحلوا بعد عن هذه الأرض فإنَّهم في معركة دائمة مع إبليس وجنوده، معركة قد يسقط فيها جرحى! أما موقف الكنيسة المعاصرة (اللاودكية) فهو مختلف تمامًا. فالمؤمنون اليوم لم يعودوا ينظرون إلى العالم باعتباره أرض معركة بل أرضًا للسكن. ليس لنحاربَ عدوّ النفوس وأجناد الشر بل لكي نستمتعَ. إننا لسنا في أرض غريبة بل في وطننا. ونحن لا نتطلَّع إلى حياة في السماء ولكن نتطلَّع إلى الحياة في الأرض. ولم يعُدِ العالم ميدان معركة بل ميدانًا للسباق نحو حياة أفضل في هذه الأرض. أصبح المؤمنون يحبّون العالم ويريدون أن يسيروا في الطريقَيْن معًا، الضيِّق والواسع. يريدون أن يتمتَّعوا بخلاص المسيح وبأفراح العالم. يحاولون أن يخدموا سيديْن، الله والمال. يقولون إن قبول المسيح لا يعني بالضرورة التخلّي عن مباهج العالم، يكرزون بمسيحية مملوءة مرحًا وسعادة وخالية من أي حرب أو ضغوط... أليس هذا بالضبط ما نراه حاصلًا في هذه الأيام؟ هنا في الكنائس الضخمة! إذ تمنحك الناعمات وهناك الهرَج والمرَج! فلا تجد جنديًا مقاتلًا في معركة المسيح! ليت الرب يمنحنا أن نكون بالحق غرباء ونزلاء في كلامنا وتصرفاتنا. ألا يقول: "مكلِّمين بعضُكم بعضًا بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنِّمين ومرتلين في قلوبكم للرب." (أفسس 5: 19) ليس هذا فحسب، بل علينا أن نتمِّم مشيئة الرب فنعمل في حقله لأنه قال: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله؟!" (يوحنا 34:4)
وهنا أريد أن أذكُر أحدَ الخدّام المعروفين في الصين ويدعى Watchman Nee. هذا كان مشهورًا في أمانته وخدمته لسيّده في القرن العشرين. حين سُئل عن موقفه إبَّان الحرب العالمية الثانية في أوروبا في الأربعينيّات، قال: "حقًا لقد تأثَّـرت جدًا من آلام الناس والمآسي الناتجة عن الحرب القائمة، لكنَّ ولائي ليس لألمانيا ولا لإنكلترا، لأنني غريبٌ. وانتمائي الأول والأخير هو إلى الملِك والملكوت الذي لا يتزعزع."
4- خدام سفراء وأمناء
وهنا يختم الكاتب في سفر العبرانيين بهذه الكلمات المؤثرة فيقول: "لذلك ونحن قابلون ملكوتًا لا يتزعزع ليكن عندنا شكر به نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوى." (28:12)
وأنت يا أخي، إذا كنت حقًا قد وُلِدت من الروح القدس وأصبحت واحدًا من أولاد الله، فالله يريدك أن تخدِم في بيته وحقله خدمةً مرضيّة، وألَّا تقول أنا لست بخادم. حين كنتُ بعدُ طالبًا أدرس الطب في السنة الثالثة في الجامعة الأميركية في لبنان، كان الطيِّب الذكر القس فؤاد ملكي، الذي تربَّيت على يده، يتّصل بي ويقول اليوم العظة عليك في الكنيسة لأن لا أحدَ من الخدام يقدر أن يصلَ إلى المنطقة (بسبب الحرب طبعًا). كنتُ أردُّ عليه وأقول: لكن أنا لست بواعظ بل طالب في الجامعة. كان يجيبني ويقول: عليك أن تهتم بالرعيَّة أنت خادم للرب. اتّصلْ بـ [أبو فوزي] لأنه مريض، زُرْه، ألستَ أنت طبيبًا؟! وبعد فترة اقتنعت بكلامه ووجدت أنه كان فعلًا على حقّ، فكلّ مؤمن حقيقي هو خادم وسفير. فلا تدع عدوَّ الخير يقول لك أنت لست بخادم. لأنَّ الرب يطلب منا أن نؤدّي خدمة مرضية أي "نسعى كسفراء ونطلب عن المسيح تصالحوا مع الله." (2كورنثوس 20:5) فهل يوجد أفضل من هذا المنصب أن تكون سفيرًا للمسيح؟
ألَمْ يُلفتِ انتباهك كيف كان عمَّال الإنقاذ يزيلون الرّكام والحجارة لكي يصلوا إلى الناس ويسعون بكلِّ قواهم لكي ينقذوهم من الموت تحت الأنقاض أثناء الزلزال؟ بالتأكيد، منظرٌ مؤثر جدًا وكم تمنّيت أنا شخصيًّا أن أكونَ واحدًا منهم. لكن، هل تعلم أنَّ عالمَنا كلّه هو تحت الأنقاض ونحن بحاجة ماسة لكي ننضمّ إلى فريق الإنقاذ، ونذهب بأنفسنا إلى النفوس، ونأتي بها إلى الرب، وإلى بيت الرب. دعونا يا إخوتي نضمِّد الجِراح ونشجّع صغار النفوس ولا نطعن بأحد ونسند الضعفاء ونتأنَّى على الجميع. وليتَ الرب يستخدمنا جميعًا لكي نكون حقًّا سفراء أمناء في الإنقاذ الأبدي.