سمعتُ عنكَ الكثير...
والآنَ رأتْكَ عينايَ... يا قدير
"طال الانتظار يا الله، وفي كلّ يوم أزدادُ شوقًا للقاء.
فمتى يأتي العزاء ونخلُص من هذا الشقاء؟ آهِ يا ربّ، أرسلِ المخلصَ الموعود وأَرِنا الطفلَ المولود.
أجل، لقد طال الانتظار وأخشى أن يفوتَني القطار. أوحيْتَ لي بروحكَ أنَّني لن أموتَ قبل أن أرى مسيح الرب، نورَ الأمم وخلاصَ البشر. يا رب، جسمي قد أخذ في الفناء، وقوّتي لم تعد تحتمل البقاء. عيناي تذبُلان ورجليّ ترجفان. فإلامَ أنتظر تحقيقَ الوعد هذا يا رحيم؟ على كل حال، إنني أبثُّكَ أشجاني يا ألله فأنت ربي وإلهي وسندي عساك تسرعُ في تدبير شؤوني، وترتيب أموري قبلَ الانطلاق إلى محضرِك والتمتّع برؤيتك. آه يا رب، ما زلتُ أنتظرك وإنْ لم يعد لديَّ من الصبر الكثير. فترأّف على عبدك ولا تتأخَّر يا مَنْ مِنْ عندِهِ يأتي العونُ الكبير..."
انتصب سمعانُ الشيخ أحدُ سكان أورشليم في ذلك الآنِ العظيم، أي منذُ ما يقارب الألفَي عام، ومرَّر يديه محاولًا تمسيدَ جبَّتِه بعد أن بثَّ أشجانه أمام العرش العظيم، راكعًا وساجدًا في محضر الآب الكريم. عساه ينال رحمةً ويجد نعمةً تعينُه في انتظاره الطويل وهو يتوقَّع تحقيقَ وعد الله له برؤية المخلص المسيّا المنتظر بأمّ عينيه قبل أن يغمض جفنيه ويرقُدَ الرقاد الأخير. وبينما هو واقف يتأمّل بوعد الله له شخصيًّا برؤية المسيّا، إذا به يحسّ بإحساسٍ غريب ملأ قلبه باللهيب. فراح يحدِّث نفسه ويقول: ما هذا الشعور العجيب؟ وما هذا الحماس الرهيب؟ أيُعقل أن يكون ما انتظرته سنين وما أتمنّاه قد صار على وشك الحدوث؟ ها إنني أحسّ بقيادة الروح القدس لي، وشيءٌ ما في داخلي يحثُّني على الذهاب إلى الهيكل الآن. آه! قلبي ملتهب فيَّ! لا، لا أستطيع البقاء هنا.. أجل سأذهب سأذهب...
وما هي إلا لحيظات حتى كان سمعان الشيخ يمشي بخطىً سريعة حتى وإن بدت للناظر ثقيلة بسبب تراكم السنين على هذا الجسد المسكين، يمشي باتجاه الهيكل لتقديم الصلوات والتشكّرات لله العلي القدير. ولمَّا وصل إلى هناك إذا به أمام منظر أخَّاذ كان يحلم بأن يراه منذ زمان بعيد. منظر يوسف ومريم والطفل يسوع تحيط به هالةٌ من النور البهيّ العجيب. "هذا هو مسيحُ الرب... هذا هو وعد الله يتمّ أمام ناظريَّ". هتف سمعان من شدّة الفرح... "آه يا رب، ما أعظمك! ما أمجدك! ما أبهاك..." وللحال اقترب سمعان الشيخ الجليل من يوسف ومريم، وأخذ الطفل يسوع بين ذراعيه، وهتف بالروح القدس وقال: "الآن تُطلِق عبدك يا سيِّد حسب قولك بسلام، لأنّ عينَيَّ قد أبصرتا خلاصك، الذي أعددته قدّام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم، ومجدًا لشعبك إسرائيل." ولما انتهى سمعان الشيخ من كلامه هذا التفت إلى يوسف ومريم وباركهما وقال لمريم أمه: "... ها إن هذا قد وُضِع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامةٍ تقاوَم. وأنتِ أيضًا يجوزُ في نفسك سيف، لتُعلَن أفكارٌ من قلوبٍ كثيرة." (لوقا 29:2-35)
هذا هو سمعان الشيخ الذي صار من ضمن أول مَن شهدوا ليسوع المسيح. الشيخ الذي لديه الخبرة والتجربة في الحياة عبر السنين الكثيرة، هو الذي عرف من كتب التوراة والأنبياء في العهد القديم أن المسيّا سيأتي، وأن الله الآب لا بدَّ أن يتمِّم وعده له بأنه لن يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. سمعان، وبعد أن رأى بالحق الطفل يسوع المسيح انبهر بالمنظر الجميل، وفاه بهذه الكلمات النبوية المفعمة بالقوة والإعلان الصريح عن مجيء النور إلى العالم. لقد تكلّم سمعان الشيخ بقوة الروح القدس بإعلانه عن هذا الخلاص الذي رآه الآن أمامه. الخلاص الذي نزل من السماء من عند الله متمثّلًا في شخص الطفل يسوع. الخلاص الذي سيطال العالم بأسره لأنه سيكون نورًا لكل العالم، أي لن يقتصر الإنقاذ الإلهي على شعب معيَّن بل سيمتدّ ليشمل العالم كلّه.
لا بدَّ أنَّ يوسف ومريم العذراء المباركة قد انبهرا من كلام سمعان الشيخ. لكن، ألم يسبق لكليهما أن سمعا أن هذا الطفل هو من عند الله كما قال الملاك ليوسف في الحلم؛ وأن هذا الطفل "ابن العليّ يُدعى" كما قال الملاك لمريم عندما بشّرها به؟! بالطبع، إن كل هذه النبوات تؤكد سابقاتها من تصاريح وبشائر سماوية. أما أن يجوز في نفس مريم العذراء سيف فهي نبوّة عن حزنها العميق كأم إزاء رفض الكثيرين لدعوة ابنها في اتباعه، ومن ثم عذابه وصلبه وموته. أليس هذا بالضبط ما تنبأ به إشعياء النبي حينما قال عنه: "رجلُ أوجاع مختبر الحزن... وكشاة تساق إلى الذبح"؟
إنَّ ما تنبأ به سمعان الشيخ بالروح القدس لفت نظر يوسف ومريم آنذاك، وهو الآن يلفت نظر العالم كلّه يا قارئي. فالنور جاء إلى العالم في شخص المسيح لينير للناس أجمعين الحياة والخلود، تمامًا كما قال إشعياء النبي: "الشعب الجالس في ظلمةٍ أبصر نورًا عظيمًا، والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور." جاء نورًا ليهدي الأنام إلى الطريق الصحيح، وليعيد شركة الله مع الإنسان. فهل أنت من الذين أشرق عليهم هذا النور؟ وهل سطع هذا النور في حياتك فأضاء حنايا قلبك المظلمة؟ تنبأ سمعان الشيخ بالروح القدس أن الناس لن يقفوا على الحياد من الرب يسوع. فإما أن يرفضوه بشدة أو أن يقبلوه بفرح. نعم، لقد قسم الرب يسوع المسيح وما زال يقسم العالم بأسره إلى قسمين، قسم يقبل خلاصه ودعوته له، وقسم آخر يرفضه مخلصًا وفاديًا وملكًا على حياته. فهل فكرت يا قارئي في حقيقة شخصية هذا الطفل يسوع الذي نحتفل بذكراه هذه الأيام وأيضًا في تميُّزه عن باقي الأنبياء أجمعين عبر العصور والأجيال؟
بعد أن رأى سمعانُ الشيخ بأم عينه خلاص الله في شخص الطفل يسوع المسيح، فرح وتهلَّل. وهتف قائلًا: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك." ارتاح سمعان لدى رؤية المخلص وبعدها أصبح في استطاعته أن يغمض عينيه بسلام وهدوء. انتهى الانتظار وأصبح في مقدوره الانطلاق إلى محضر الله في السماء. لقد تحقّق حلمه وتمّم الله وعده له. فلماذا البقاء على هذه الأرض الفانية والزائلة؟
وأنت - قارئي - هل أبصرت حقًا خلاص الله في المسيح؟ أي، هل اختبرت غفران الخطايا وحصلت على الخلاص الأكيد؟ عندها تستطيع أن تقول بأنك رأيت المخلص بعين الإيمان: "بسمع الأذن قد سمعت عنك، والآن رأتْكَ عيني."