نحاول اليوم الدخول إلى العمق في رسالة رومية فنتعرَّف أكثر على الحقائق الأساسية فيها. وهنا نعود لنؤكّد على بعض النقاط
الهامة إذ يتكلّم لنا الروح القدس في الفصول الثمانية الأولى منها على لسان الرسول بولس عن الأبعاد الثلاثة للخلاص: ففي الأصحاحات 1-5 نجد الخلاص بمعنى التبرير أي الخلاص من دينونة الخطية وعقابها عن طريق الولادة الثانية؛ إذ يحصل فيها الإنسان الخاطئ على البراءة... تمامًا مِثْل المجرم حين يأتي إلى قاعة المحكمة فيقف شخص يدافع عنه ويقول: "أنا أخذت القصاص بدلًا منه."
عندها يغدو المجرم بارًا ليس لأنَّه لم يفعل جُرْمًا بالطبع، بل لأنَّ هناك مَن تحمَّل مسؤولية العقاب عنه.
وفي الفصول 6-8 نجد البُعد الثاني للخلاص ألا وهو التقديس، أي كيف نحيا حياة المسيح على الأرض - حياة القداسة المملوءة من روح الله - حياة الحرية الحقيقية من سلطان الخطية. "كونوا قديسين لأني أنا قدوس." (1بطرس 16:1)
أما البعد الثالث للخلاص فهو التمجيد وهذا ما يتمّ حدوثه حين يلبس كل المؤمنين الجسد الممجّد ونصبح مع الرب إلى الأبد، فنخلص من حضور وتجربة الخطية. وفي الفصل 7 يصوِّر لنا معاناة الإنسان ومأساته الحقيقية من دون المسيح. لماذا؟ لأنَّه يحاول أن يعيش كما يجب لكنَّه لا يستطيع وهذا هو واقع العبودية. فنراه يعيشُ صراعًا داخليًا يوضِّحه جورج ميد George Mead الفيلسوف الأمريكي: بأنَّ الصراعَ قائمٌ بين "الذات المثالية والذات الحقيقية" Ideal Self & Real Self. وما وصفه بولس يجعلك تشعر بالكآبة والغمّ فعلًا لما يجري في داخل الإنسان المتديّن من دون المسيح، كما ويحدث هذا الصراع مع المؤمن الذي يعيش من دون قيادة الروح القدس في حياته. يقول C.S. Lewis والبروفسور في جامعة كامبريدج: "لا يقدرُ الإنسان الطبيعي أن يدرك كم هو سيِّئٌ أو خاطئ إلا إذا حاول جاهدًا أن يعيش الحياة الصالحة والمقدسة من دون المسيح ونعمته وقوته." وحين تقرأ الموعظةَ على الجبل ستدرك للحال أنَّ الأمر يبدو مستحيلًا لأنَّ مستوى تعليم الرب يسوع فيها عالٍ جدًا ورفيع. فمَن هو كفءٌ إذن لهذا الكلام؟ هذا كان واقعَ شاول قبلَ أن يأتي إلى المسيح. لهذا استطاع أن يصف الصراع الذي كان يعاني منه بكلِّ دقَّة. فهو رغم معرفته أن الناموس روحيّ لكنَّه يقول عن نفسه بأنَّه "جسديٌّ مبيعٌ تحت الخطية". كذلك أيضًا، على الرَّغم من أن الإرادة حاضرة عنده لكي يفعل الحُسنى لكنَّه لم يجدْ لأنَّه عاجز. وكذا سرورُه بناموس الله في الإنسان الباطن لم يُفدْه بشيء لأنَّه رأى ناموسًا آخر في أعضائه يَسبيهِ إلى ناموس الخطية. والسبب هو "الخطية الساكنة فيّ". وهنا يتكلم عن الطبيعة الشهوانية التي في داخل الإنسان العتيق، أو جسد الخطية، أو الجسد كما يسمّيه أحيانًا. والنتيجة هي أنَّ الشر مسيطرٌ عليه وهو مستعبَدٌ لها.
1- مأساة الازدواجية والعبودية
وهنا نجد أنه حتى لو استطاع الإنسان المتديِّن أو المثالي أن يُخفي هذه الحقيقةَ بالتظاهر أمامَ الناس بالمظهر الحسن، لكنّه لا يقدر أن يخُفي ذلك عن الله. لماذا؟ لأنَّ لدى الله آلةَ تصوير روحية بالغة في الدقة تمنحك صورة واضحة تمامًا عمَّا في داخلك... هي أكثر فعالية من آلة التصوير بالرنين المغناطيسي MRI. عاش نفس هذا الصراع الراهب مارتن لوثر لسنين طويلة أيضًا. فما هو الحلّ إذًا؟ الحلّ عند فرويد هو: "عش كما تريد وكما يحلو لمزاجك". وسارتر الفيلسوف الفرنسي الوجودي، أخذه عنه أيضًا. لذا فلا عجب في هذه الأيام حين نتكلَّم مع الشباب نجدهم يقولون: ما نحن إلا Human أي بشَر بمعنى ضعفاء. كلاَّ يا إخوتي ليس هكذا، فهذا لا يحصل معنا لأننا بشر بل لأننا Carnal أي جسديّون والطبيعة الساقطة والشهوانية تسيطر علينا. ولهذا نجد الشباب قد مَلُّوا من الدّين الذي لا يحرِّر النفس. وكان كارل ماركس يقول: "الدين أفيون الشعوب". ولهذا نجد الكثيرين يعيشون بالسرّ حياةً تختلف تمامًا عن العلن. ومن كَثرة الكبْت في الداخل يتصرَّف البعض ببشاعة فنسمع مثلًا عن فضائحَ لرجال دين ونتساءل: كيف حصل ذلك؟ والجواب: لأنَّهم لم يختبروا الحريةَ الحقيقية في المسيح.
2- الحرية والعتق من الخطية
ترى، هل يستطيع المشلول أو المقعَد أن ينخرِطَ في السباق؟ أو المولودُ ولديه مشكلة في قلبه، أيقدر أن يصعَد السلالِم دون أن يتعرَّض للخطر؟ هذا هو واقع الإنسان: هناك مشكلة في القلب الروحي. لهذا نقرأ على لسان حزقيال النبي هذه الكلمات: "وأعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم، وأنزعِ قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلبَ لحم. وأجعل روحي في داخلكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي وتعملون بها." (26:36-27) لذا أقول: لا يمكن أن نكون أتقياء وأقوياء إلاَّ حين نصبح أنقياء. هنا تكمن الحرية الحقيقية. إذن أنت بحاجة إلى زراعة قلب جديد لتصبح خليقة جديدة. عندها تستطيع أن تسلك في فرائضه. أذكر هنا يوم كنتُ بعد أقوم بأداء Residency كطبيب متدرِّب، أنِ التقيتُ بمريض أُجريتْ له عملية زرع قلب. فسألته كيف تشعرُ الآن؟ فردَّ عليَّ بكل ثقة: أنا الآن إنسانٌ جديد أختلف تمامًا عن الماضي. أستطيع أن أمشي بشكل طبيعي من دون أيِّ تعب. وهنا يفسّر لنا الرسول في الفصل الثامن من رومية ويقول: "لأنَّ ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت. لأنه ما كان الناموس عاجزًا عنه، في ما كان ضعيفًا بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية، دانَ الخطية في الجسد، لكي يتمَّ حكمُ الناموس فينا، نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح." (2:8-4) إذًا ناموس روح الحياة في المسيح هو وحدَه الذي يُعتق الإنسان من الخطية والموت. تمامًا مثلَما يطيرُ العصفور ويحلِّق في الفضاء حين يكون حيًّا. أما الميّت فيقع على الأرض بفعل الجاذبية. نحنُ كنا أمواتًا بالذنوب والخطايا، لكنَّ الله أحيانا مع المسيح. يقول النبي إشعياء: "وأما منتظرو الرب فيجدِّدون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور..." (31:40) الشاعر خليل حاوي هو أستاذ مشهور في الجامعة الأمريكية في بيروت، قال يومًا:
"أين مَنْ يُفني ويُحيي ويعُين،
يتولَّى خلْقَ النسر من نسل العبيد"
وعن المنقِذ يقول:
"أضلُعي امتدَّت لهم جسرًا وطيد،
من كهوفِ الشرق من الشرق البعيد."
وهو يعني هنا: أين المنقِذ؟
وأقول أنا: مَن هو بالطبع غير الرب يسوع؟
أما أنا وفي أيام شبابي فقد كنت غيورًا جدًا على تغيير المجتمع والقضاء على الفساد فيه. لهذا اشتركتُ في عدة مظاهرات وناديت مع أترابي بالحرية وقلْنا بصوتٍ عال: "يا حرية نحن رجالك." لكن، أتاني مرّةً صوت في داخلي خفيف ليقول: هل أنتَ حرٌّ حقًّا من كل فساد وغشّ؟ كيف تنادي بالحرية في المجتمع وأنتَ نفسُكَ لست حرًّا؟
صارعتُ هذا الصوت كثيرًا ولمدة ستة أشهر، أقرَّيت بعدَها بأنني مستعبدٌ بالحق وبأننَّي بحاجة إلى روح المسيح لكي يُعتقَني ويحرّرني. وطلبت من الرب أن يغيّرني من الداخل وتبتُ توبة صادقة من القلب وطلبت من روحه أن يسكن فيَّ.
"وحيثُ روح الرب هناك حرية". الحرية يا أخي ليست اختيارًا عاطفيًا لكنَّها ينبغي أن تصحَب معها التوبةَ الحقيقية والولادة والقيادة من روح المسيح.
هل تراكَ تعلم ما هي مأساة بلدي الحبيب لبنان؟ بكلِّ صراحة أقول: هي أنَّ أمراء الحرب وأثرياءَه اتفقوا معًا على إنهاء الحرب بعد خمس عشرة سنة من الخراب والدمار والاقتتال. كيف؟ اتفقوا معًا، تحت قياداتٍ إقليمية وأخرى خارجية، وقيل لهم عندئذ أنَّ عليهم أن يُصدِروا عفوًا عامًا بأنفسهم وعلى أنفسهم عن كل الجرائم التي ارتكبوها بحقِّ الشعب. ففعلوا، وعاد مَن خرَّب البلد ليكون في السلطة من جديد. وخلال الثلاثين سنة الماضية قام هؤلاء بتوزيع ثروة البلد عليهم فكانت النتيجة أن أفلسَ البلد. "حاميها حراميها!" كما يقولون، تمامًا... نعم، لقد غيّروا ربَّما شكلهم لكنْ دون أن يتوبوا ويرجِعوا عن طرقهم الرديَّة. والحرية الحقيقية تمنحُك الخَيار لكي تقول "لا" للخطية. والمؤمن فقط هو مَن يقدر أن يفعل ذلك كيوسف الصدِّيق الذي حارب الخطية بقوة الله لأنَّ روح الله كان حالًا عليه. أما شمشون فلم يقدر أن يقاومَ الخطية. وهكذا أيضًا فعل الملك داود للأسف فوقع في حبائلِها. لهذا يطلب بولس أن نثبت: "فاثبتوا إذًا في الحرية التي قد حرَّرنا المسيح بها، ولا ترتبكوا أيضًا بنير عبودية." (غلاطية 1:5)
3- طريق الانتصارات الروحية
لا بدّ أن أذكر هنا قصة ابن عمي طبيب الأسنان الذي كان لديه ببَّغاء في لبنان. وكان متعلِّقًا به إلى درجة الاستعباد حتى إنه علَّمه النشيد اللّبناني. وكنت كلَّما زرتَه يستقبلني الببَّغاء بحفاوةٍ ويقول: "كيفَك يا حلو." وعندما سمَح له أن يطير ويبتعدَ وجدَه محطّ ثقةٍ لأنَّه كان ما يلبثُ أن يعود ويحطَّ على كتفه. وفي إحدى المرات وهنا حلّت الكارثة طار ولم يعُد. صُدم الطبيب وراح يندب حظه. أما فحوى الكلام هنا فهو، بأنَّ مَن يذوق طعم الحرية - يا صديقي - لن يعود إلى فعل الخطية. إذا كان روحُ الرب يملأ حياته كلَّها فالامتلاء هو الامتلاك. وقوة روح الله تمنحُك القدرة لتعيش حياة المسيح على الأرض أي حياة النصرة. وعندها تختبر أيضًا الحياة الفضلى. علينا جميعًا أن نكرِّس حياتنا في كل يوم جديد، لنحصل على النصرة الدائمة في حياتنا. قلْ للرب: فرِّغْنِي من ذاتي وسيطر عليّ وقُدني لكي أكون خاضعًا لك ولكَ وحدك. وحينئذ تستطيع أن تقول مع بولس الرسول: "مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ." (غلاطية 20:2) عندها فقط تستطيع أن تكون مثمرًا. ترفض كلَّ فكر شرير يداهمُك لأنْ لديك أداةً حساسة هي الروح القدس فيك. وصف "بيل برايت" حياة المؤمن الروحية الضعيف فقال: "لا تهمُّه أمورُ الله، هو دائم القلق، لديه حقدٌ وحسدٌ ودائم الشعور بالذنب، يدينُ الآخرين ومعرّض لليأس والقنوط. أما الذي ينقاد بالروح فهو ممتلئ بقوة الروح يثق بإلهه ويطيعه ويحيا حياة المحبة والفرح والسلام. وعند ذاك يعيش الإنسان المؤمن البنوَّة الحقيقية.
4- البركات والامتيازات النبويّة
كتب بولس يقول في هذا المنحى: "لأنَّ كل الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله... فإن كنا أولادًا فإننا ورثة أيضًا، ورثة الله ووارثون مع المسيح." (رومية 14:8 و17) الدعوة هي أن نقُادَ بروح الله. فيحيا الابنُ حياة البنوّة لأنه ابن الملك. والهدف هو "لكي نكون مشابهين صورةَ ابنه." الابن يُشبه أباه أما العبد فلا يشبه سيده. ثم الابن يرث أباه أما العبد فلا يرث. ألم يقل الأب لابنه الأكبر في مثل الابن الضال هذه الكلمات التي تؤكد له مكانته: "يا بُنيَّ أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك." (لوقا 31:15) فإذا كنتَ بالحق ابنًا، فيجب أن تختبر بركات الله وميراثه الروحي. ولا يسعني هنا إلا أن أختم لأقول: حين كنت ولدًا صغيرًا كانت جدَّتي تذكّرني في كل يوم وقبل ذهابي إلى المدرسة وتقول لي: "يا بنيّ تذكَّر دائمًا ابنَ مَن أنت." فظننْتُ عندها أنَّها كانت تريدني أن أتذكَّر من أية عائلة أنحدِر (عائلة رعد) ومَن هو أبي ومَن هو جدِّي. لكنَّها لم تكن تعني ذلك البتّة. وكل ما أرادت أن تقوله لي هو: تذكَّر يا بُني أنك من أولاد الله. أي أسلُك على هذا الأساس.
يدعوك الرب الآن - يا أخي - أن تعيش هذه الحياة الفياضة المنتصرة والممتلئة بروح المسيح هنا على الأرض.