لا يوجد شيء في هذا العالم له قيمة تُعادِل قيمة المحبة. أرني شخصًا ليس له من يعتني به أو يحبّه وأريك فيه أتعس مخلوق على وجه الأرض.
لماذا ينتحر بعض الناس؟ في غالب الأحيان، لأنه يتسرَّب إلى قلوبهم هذا الفكر وهو أنه لا يوجد من يحبهم أو يعطف عليهم، وأن الموت أفضل لهم من الحياة.
ولا يوجد حق في الكتاب المقدس يتملك قلوبنا أكثر من محبة الله. كما أنه لا يوجد حق يريد الشيطان أن يبعده عنا مثل محبة الله.
متى يحبّنا الله؟
إن الفكر بأن الله لا يحبّنا البتّة، أو أنّه لا يحبّنا إلا متى عملنا حسنًا، ليس له أصل في كلمة الله. إن كان الناس قد ضلّوا عن الله فليس معنى ذلك أن الله يبغضهم. إنه يبغض خطاياهم فقط. والسبب في كون البعض يشكّون في محبّة الله لهم هو أنهم يقيسون الله بمقاييسهم البشريّة الصغيرة. نحن نحبّ الناس طالما نعتبرهم مستحقّين لمحبّتنا وإلا فنبغضهم، لكن الأمر ليس هكذا مع الله. يوجد فرق شاسع بين المحبّة الإلهيّة والمحبّة البشريّة.
مقياس المحبّة الإلهيّة
في أفسس 19:3 نرى سموّ المحبّة الإلهيّة التي لا حدّ لها لأنّها «فائقة المعرفة». كثيرون يظنّون بأنهم يعرفون شيئًا يُذكر عن محبّة الله، ولكنّنا في الواقع إلى الآن لم نعرف عنها إلا القليل. لقد اكتشف "كولومبس" أميركا، ولكن ما الذي عرفه عن أنهارها وغاباتها وسهولها المتّسعة وما تحويه أراضيها من كنوز؟ لقد مات دون أن يعرف شيئًا يُذكَر عن البلاد التي سبق واكتشفها. هكذا كثيرون منّا قد عرفوا شيئًا قليلاً عن محبّة الله، أما حدودها التي لا نهاية لها فلا يمكننا أن ندركها. تلك المحبّة هي محيط عظيم يجب أن نغوص فيه قبل أن ندرك شيئًا يُذكر من كنوزه.
إذا أردنا أن نعرف محبة الله فعلينا أن نذهب إلى الجلجثة. هل يمكن أن نتأمل في ذلك المنظر ثم نقول إن الله لا يُحبّنا؟ يتكلّم الصليب عاليًا عن محبّة الله. لم تظهر محبّة مثل تلك التي أظهرها الصليب. ما الذي دفع الله لأن يبذل ابنه؟ وما الذي دفع المسيح لأن يموت؟ أليس الدافع هو المحبة؟ ماذا يقول الرب يسوع؟ "ليس لأحدٍ حبّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه." (يوحنا 13:15) لقد وضع حياته لأجل أعدائه، لأجل مبغضيه وقاتليه. أليست المحبة هي أساس عمل الصليب؟ ماذا قال المسيح عندما كانوا يستهزئون به ويسمرونه على الخشبة؟ "يا أبتاه اغفر لهم، لأنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون." (لوقا 34:23) هذه هي المحبّة الحقيقيّة. لم يطلب نارًا من السماء لتفنيهم، رغم أنهم كانوا يستحقّون أكثر من ذلك، بل لم يُكِنّ في قلبه لهم سوى المحبّة.
محبّة الله غير متغيّرة
إن أقلّ دراسة لكلمة الله تعلن لك هذه الحقيقة. تبرد عواطف الكثيرين ممن كانوا يحبّوننا يومًا ما، وربما تنقلب محبّتهم إلى عداوة. ليس الأمر هكذا مع الله. مكتوب أيضًا عن الرب يسوع المسيح وهو على وشك أن يذهب إلى الجلجثة: "إذ كان قد أحبّ خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى." (يوحنا 1:13) لقد عرف بأن أحد تلاميذه سينكره، وسيحلف أنه لا يعرفه، ومع ذلك فقد أحبّ بطرس. إن محبّة الرب لبطرس هي التي أذابت قلبه وأرجعته إلى قدمَي الرب تائبًا. وعرف أن آخر سيخونه ويبيعه ومع ذلك استمرّ في مسيرة المحبّة للنهاية. وفي الليلة التي أُسلم فيها، صبّ ماء في مغسل وائتزر بمنشفة، وإذ أخذ مكان الخادم ابتدأ يغسل أرجلهم، وأراد بذلك أن يريهم محبّته غير المتغيّرة. وماذا قال المسيح للآب عن هؤلاء؟ "ليعلم العالم أنّك أرسلتني، وأحببتهم كما أحببتني." (يوحنا 23:17) لا يوجد سبب واحد يجعل الله لا يحبّ ابنه يسوع المسيح. لقد أطاع حتى الموت، لم يتعدَّ مشيئة الله مطلقًا، وقد مجّده على الأرض. لكن الأمر يختلف كلّيّة بالنسبة لنا. فالله قد أحبَّنا وبذل ابنه الوحيد لأجلنا على الرغم من عصياننا وشرِّنا. ويجب أن نفرّق بين الخطية والخاطئ، فالله يحبّ الخاطئ ولكنّه يكره الخطيّة لأنه قدّوس.
محبّة الله لا تزول
محبّة الله لا تتغيّر، وليس هذا فحسب بل محبّته أيضًا لا تزول. "هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين، وأنا لا أنساك." (إشعياء 15:49) إن أعظم محبّة نعرفها هي محبّة الأم. فقد توجد أشياء كثيرة تفصل بين الرجل وزوجته، وقد يتحوّل قلب الوالد عن الابن، وقد يصير الإخوة والأخوات أعداء بعضهم لبعض، ولكن محبّة الأم تثبت في كل الأحوال. إنها تحبّ ابنها سواء كان صيته حسنًا أو رديئًا، تحبّه حتّى في حالة إجماع الآخرين على كراهيّته وحكمهم عليه بعدم الاستحقاق لأيّ محبّة أو عطف. إنها تحبّه وترجو أنه يومًا ما يغيّر طرقه السيِّئة ويتوب عنها. فهي تتذكّر ابتسامات الطفولة ومرح الحداثة وريعان الشباب، لا يمكن البتّة لأحدٍ أن يجعلها تعتقد أن ابنها لا يستحقّ حبّها له. ألا تراها، مهما كانت تصرّفاته معها، تسهر عليه الليالي الطويلة في حالة مرضه؟ ألا تراها تُصرّ على ألّا يعتني بابنها شخص سواها مهما أضناها التعب؟ إنها أحيانًا تودّ أن ينتقل المرض إلى جسمها إن كان في ذلك الشفاء لابنها.
ذكر أحد المؤمنين قصة عن رجل كان سيّئ الخُلق للغاية. ولقد بذلت زوجته كل ما استطاعته لكي تمنع تسرّب العدوى إلى ابنها، ولكن تأثير الوالد كان شديدًا فقاد ابنه إلى كلّ أنواع الشرور حتى صار من أكبر المجرمين. وإذ اقترف هذا الابن جريمة قتل قُدِّم إلى المحاكمة. وفي جميع الأيام التي كان فيها هذا الابن يُحاكَم كانت أمّه الأرملة (لأن زوجها كان قد مات) تجلس في ساحة القضاء لتسمع ما يُقال. وكلّما نطق شخص بشهادة ضدّ ابنها كان يبدو للجميع أن وقع كلامه على الأم أشدّ بكثير من وقعه على الابن نفسه. ولما ثبتت إدانته وحُكم عليه بالإعدام ارتاح إلى هذه النتيجة كل شخص إلّا الأمّ. فكم كان وقع هذا الحكم شديدًا على قلبها. ولكن هل غيَّر ذلك من محبّتها له؟ كلّا. لقد طلبت مهلةً في التنفيذ فلم يُستجَب إلى طلبها. وبعد تنفيذ الحكم تضرّعت بإلحاح أن يُسلّم جسد ابنها إليها، ولكن لم يُستجب أيضًا إلى طلبها هذا، إذ كانت القوانين تقضي بدفنه في حديقة السجن. ولكن هل تعلم ما الذي حدث بعد ذلك؟ لقد ماتت الأم من شدّة التأثّر على ابنها، وقبل أن تُسلم روحها طلبت أن يُدفن جسدها بجانب جسد ابنها. لم تكن تخجل من أن تُعرَف بأنها أمّ القاتل.
محبة الله تفوق محبّة الأم
إن محبّة الأم لا تُقارَن بمحبة الله، إذ لم توجد أمّ على وجه كلّ الأرض تحبّ ابنها كما يحبّك الله أو يحبّني. تأمّل في المحبة التي جعلت الله يبذل ابنه ليموت عن الخطاة! لقد كان الفكر السائد عندي هو أن الله قاضٍ قاسٍ، وأن المسيح دخل بيني وبينه وأوقف غضبه. ولكن بعد أن صرتُ أبًا، ولعدّة سنوات لم يكن عندي سوى ابن واحد، كنت كلّما أنظر إليه أتذكّر الآب الذي بذل ابنه الوحيد لأجلي، وأدركت أن بذل الآب لابنه الوحيد يتطلّب محبّة تماثل بذل الابن لنفسه، "لأنه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية." (يوحنا 16:3) فهل تقدّر محبّته؟!