المجلة
"حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ. فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ قَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ" (متى 15:22-21).
"حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟ فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ. فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ قَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. فَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ" (متى 15:22-21). وردت هذه الحادثة في الأناجيل الثلاثة الأولى (مرقس 14:2-16؛ لوقا 20:2-26). كانت هذه الحادثة مؤامرة جديدة على المسيح استهدفت الإيقاع به واستدراجه لاتخاذ بعض المواقف السياسية أو الدينية التي تتناقض مع الشرائع الناموسية أو المدنية. وقد ظنوا أنهم، في هذه المرة، قد أسقطوه في فخّهم أو كما يقول الكتاب "لكي يصطادوه بكلمة". لا ريب أن قلوب الفريسيين والهيرودسيين كانت مشحونة بالكراهية والبغضاء؛ فجميع محاولاتهم السابقة قد باءت بالإخفاق، بل إن تلك المحاولات ولّدت في نفوسهم الخوف من نقمة الشعب عليهم. وأودّ هنا أن أشير إلى بعض القضايا أو المشكلات التي سعى الهيرودسيون والفريسيون إلى تنفيذها التي كان في إمكانها أن تفضي إلى الحكم على المسيح إما بالموت أو السجن المؤبد. أولاً، تضافر القوة السياسية والنفوذ الديني على المسيح على الرغم من العداء المستحكم بينهما. لا بدّ أن اجتماعات سرية عديدة قد عُقدت ما بين الهيرودسيين أتباع الملك هيرودس الأدومي الأصل وعميل الدولة الرومانية، والفريسيين الممثلين للسلطة الدينية، وفيها تمّ رسم خطة جهنمية ظنوا معها أن المسيح سيعجز عن إنقاذ نفسه من الشرك الذي حاكوه له. وقد تناسى الفريسيون وبقية اليهود ما تردد على لسان النبي صموئيل من تحذير صارم من إقامة ملك عليهم من غير إخوتهم. صحيح أن الوجود الروماني في أرض اليهودية كان يحزّ في نفوسهم؛ ولكن مع كل ذلك الاختلاف السياسي والعقائدي، فقد اتفقت الفئتان على إهلاك المسيح. كان المسيح في الأصحاحات السابقة قد ضرب ثلاثة أمثلة أهاجت عليه سخط المتآمرين؛ إذ كانت في مجموعها ترمز إلى مواقف رؤساء الكهنة والفريسيين المفعمة بالنفاق والرياء مما قد يهدد سلطتهم على الشعب ويعرّضهم إلى نقمة الرومان، أي القوة العسكرية التي يخضعون لها قهرًا. وأقبلوا إلى المسيح، بعد أن أتقنوا فخّ المؤامرة، وتظاهروا بتقديرهم لشخصيته ومواقفه الأدبية والروحية. ثانيًا، السؤال الذي طرحوه على المسيح بذلك الأسلوب المهذّب الذي ينمّ على الود كان الخطوة الأولى في المؤامرة: أيجوز أن نعطي الجزية أم لا؟ كان هذا السؤال له دلالته البالغة على الصعيد الديني والتشريعي والسياسي. فمن ناحية، كان الفريسيون بل معظم الشعب اليهودي ناقمين على الحكم الأجنبي الذي فرض عليهم إعطاء الجزية لقيصر الإمبراطور الوثني؛ فدفْعُ الجزية صاغرين هو إشارة للخضوع والمذلة وتأكيد على إذعانهم القسري للسيطرة العسكرية. ولشدّ ما كانت قلوبهم تتوق لظهور المسيا المنتظر ليحررهم من ربقة عبوديتهم للعدو الجاثم على صدورهم. ولكن رغم كل ذلك، فإن في طبيعة أسلوب السؤال تكمن السخرية التي تفيض حقدًا. قالوا له: "يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ". هنا بؤرة النفاق والخبث. لو كانوا حقًا يؤمنون أنه من الله لاتبعوه وانضموا إلى صفوفه وأصبحوا من تلاميذه. ولكن هذا الأسلوب المنمّق المهذّب كان ينطوي على الخداع والمكر وهو أمرٌ لم يخفَ عن يسوع. لهذا قال لهم بصورة جازمة: "لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟" استهدف المسيح من هذه المواجهة المباشرة وضع حدٍّ لخبثهم، والكشف لهم أن حيلتهم لم تنطلِ عليه. ولكن مع كل ذلك لم يتردد لحظة واحدة عن الإجابة عن سؤالهم. ثالثًا، لقد أمل أعداء المسيح أن يسقط في حبائلهم، وظنوا أنه لن يجد نجاة أو منفذًا من هذه المؤامرة. فإن قال: لا تعطوا الجزية لقيصر، يكون هذا تمردًا على السلطة السياسية والعسكرية التي استعمرت اليهودية وهكذا يُقبض عليه ويُحاكم وِفقًا للشريعة أو القوانين الرومانية. وإن قال: ادفعوا الجزية لقيصر يغضب اليهود ولا سيما المغالين منهم، ويفقد نفوذه على الشعب. هذه هي الصورة التي توخّوها. رابعًا: طلب منهم المسيح أن يروه العملة التي يجب أن يدفعوها لقيصر، فأعطوه دينارًا. يبدو لي أن المسيح في طلبه تلك العملة كان يسعى لكي يكشف بُعدًا جديدًا لم يخطر ببالهم. وإذ تأمّل في الدينار سألهم عن الصورة المصكوكة عليه وعن الكتابة المنقوشة، فكان جوابهم: "لقيصر". فقال لهم: "أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ". خامسًا، من الملاحظ في جواب المسيح أنه أضاف شيئًا لم يسألوه عنه وهو الجزء الأخير من رده عليهم: "وما لله لله". إن كثيرًا من المسيحيين يرون في هذه الآية إجابة صريحة عن فصل الدين عن الدولة؛ وفي رأيي أنهم أساءوا فهم ما عناه المسيح في هذه الإشارة. لقد أراد يسوع بكل بساطة أن يقول لسائليه: أعطوا لصاحب الحق حقه، فهذه العملة التي بين يديّ تخص القيصر لأن عليها صورته وربما اسمه. فهي إذًا ملك قيصر، وإذ تردّوها إليه فإنما أنتم تعطونه ما له. ومن الملاحظ هنا أن المسيح لم يستخدم لفظة ادفعوا، ولم يذكر كلمة الجزية، وكأنما الأمر متعلق بالمُلكية أكثر من الجزية المفروضة. والغرض الثاني من هذه الإجابة أن المسيح قد طالب هؤلاء الرؤساء والفريسيين أن يعطوا ما لله لله. فقد انهمك هؤلاء في تنفيذ حرفية الناموس بكل ما فيه من تقاليد وطقوس، وتخلوا عن العبادة الحقيقية المستوجبة عليهم لله، بل إنهم أثقلوا كاهل الشعب بهذه الطقوس وأضافوا عليها ما لم يرِد في شريعة موسى. سادسًا، في إجابة المسيح عن سؤالهم الماكر، أظهر لهم نقطة الضعف في مواقفهم. فما الذي يحدث عندما يتعارض القانون التشريعي مع إرادة الله؟ ما هو الموقف الذي يجب أن يتخذوه عندما يتناقض القانون المدني مع التشريع الإلهي؟ لدينا في العهد الجديد حادثة بارزة جسّدت مضاعفات هذه المشكلة وعبّرت عن الموقف المسيحي. فعندما أمر رؤساء الكهنة والفريسيون التلاميذ ولا سيما بطرس ويوحنا أن يكفّا عن الكرازة باسم المسيح وموته وقيامته، أجاب بطرس: "إِنْ كَانَ حَقًّا أَمَامَ اللهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكُمْ أَكْثَرَ مِنَ اللهِ، فَاحْكُمُوا". كان هذا الموقف صورة مصغرة عن موقف الكنيسة بعد يوم الخمسين، فعلى الرغم من كل اضطهاد، وعذاب، وجلدٍ، وسجنٍ، وقتلٍ، ظلّت الكنيسة ثابتة في مواقفها تعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وفي عصيانها لأوامر الدولة التي كانت تتناقض مع إرادة الله ووصاياه لم تعمد الكنيسة إلى العنف، أو تتخذ مواقف إرهابية، بل ظلّت تقوم بواجباتها تجاه الدولة بكل خضوع، ولكنها أعدّت نفسها للاستشهاد في سبيل إيمانها، لا في معارك عسكرية أو ثورات، إنما بثباتها في إيمانها أعطت ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وجعلت حقّ الله فوق حق القيصر. في نهاية هذا المقال، عليّ أن أومئ إلى أمرين هامين: أولاً: إن هذا السؤال الذي ألقاه الهيرودسيون والفريسيون بمكر على المسيح قد تحوّل إلى تهمة كاذبة ضد المسيح رفعوها إلى الوالي بيلاطس البنطي. فقد جاء في إنجيل لوقا 1:23-2 "فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاَطُسَ، وَابْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ". وثانيًا: أننا كمسيحيين علينا ان نعطي جزية لله. ولكن هذه الجزية قامت في أساسها على الاختيار. فعندما سلمنا أنفسنا للمسيح وأصبحنا تلاميذه باختيارنا، أضحى علينا أن ندفع للمسيح جزية المحبة. وجزية المحبة أن نكون مثله في كل شيء: في التضحية، في الشهادة ، في العشور، في القداسة، في الصلاة، في الإيمان، في الاتكال، وفي تنفيذ وصاياه. فقد اشترانا المسيح بدمه، وحررنا من العبودية، وضمن لنا أمجاد الملكوت، وكل ما نفعله من أجله هو إعراب عن امتناننا، ومحبتنا وتقديرنا لأفضاله علينا.