المجلة
عندما انبثق النور لأول مرة على وجه البسيطة، كان ذلك أول أعمال الله لإعمار الأرض وتجهيزها. ثم توالت خلائقه الأخرى في الظهور تباعًا، وبعد أن أتم الخليقة المادية والحيوانية والنباتية "رأى الله ذلك أنه حسن"، ثم ختمها جميعًا بخلق آدم أبي الجنس البشري ليكون تاج الخليقة ومتسلطًا عليها "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا"!
عندما انبثق النور لأول مرة على وجه البسيطة، كان ذلك أول أعمال الله لإعمار الأرض وتجهيزها. ثم توالت خلائقه الأخرى في الظهور تباعًا، وبعد أن أتم الخليقة المادية والحيوانية والنباتية "رأى الله ذلك أنه حسن"، ثم ختمها جميعًا بخلق آدم أبي الجنس البشري ليكون تاج الخليقة ومتسلطًا عليها "ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جدًا"! من بين جميع الإعلانات الإلهية تبرز قصة الخليقة مرتبطة بسقوط الإنسان الأول كما هي واردة في بداية سفر التكوين، كأحد المواضيع التي تعرضت وما زالت تتعرض كثيرًا للجدل. لكننا حين ننظر إلى الأمور بعمق وبإرشاد إلهي نجد أن تساؤلات الإنسان وشكوكه تأتي دائمًا بسبب نظرته القاصرة إلى الله. حيث أنه يقيس أمور الله بحسب فكره هو، فالإنسان ينظر إلى جزئيات الأمور فلا يستطيع إدراك مراميها، وعندها يبدأ بالتشكك في كلمات الوحي. بينما الله ينظر إلى الصورة الكاملة على اتساع تفاصيلها وعلى مدى عصور تشكلها فيراها دفعة واحدة بحسب قدرته الفائقة! لذا كان لزامًا علينا أن نسلّم بالأمور الروحية، ونقبلها بالإيمان القلبي الواثق بقدرة الله وسلطانه العظيم وكماله المطلق. فقد يقول قائل: "كيف استحسن الله خليقته بهذا الشكل بعد خلق الإنسان"؟ ألم يكن يعلم أنه سيخطئ وينساق خلف أفكار الشيطان؟ والكتاب يجيب بنعم، لأنه يعلن أن الله لا يُخفى عليه أمر في الماضي أو الحاضر أو المستقبل. ولكن معضلة فهمنا للأمور تكمن في ربطنا بين علم الله السابق وإرادته الحاضرة، وبين عدل الله المطلق ورحمته الواسعة. ونحن كبشر لا يمكننا التوفيق بين متناقضات شديدة التباعد كهذه بينما الله في كماله العظيم قادر على ذلك حتمًا. وهو يضبط كل ما في الكون لتحقيق مقاصده الصالحة. ولو تقدمنا قليلاً في قصة الخليقة إلى الجيل الأول من بني آدم وعلى وجه التحديد إلى قصة قايين وكيف قتل أخاه حسدًا، فبعد أن قَبِل الله تقدمة هابيل ولم يقبل تقدمة قايين يقول الكتاب: "فَاغْتَاظَ قَايِينُ جِدًّا وَسَقَطَ وَجْهُهُ. فَقَالَ الرَّبُّ لِقَايِينَ: لِمَاذَا اغْتَظْتَ؟ وَلِمَاذَا سَقَطَ وَجْهُكَ؟ إِنْ أَحْسَنْتَ أَفَلاَ رَفْعٌ؟ وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ اشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا" (تكوين 5:4-7). ففي هذه القصة أمور كثيرة يمكن أن نتعلمها إذا تجاهلنا الأفكار الجدلية من عقولنا وهي: 1- إن الله يعلم مسبقًا بكل شيء صغيرًا كان أم كبيرًا. كما يعلم بكل ما في الحاضر أو المستقبل. 2- إن مشيئة الله من نحو بني البشر هي صالحة دومًا وليست مبنية على علمه السابق. 3- إن حرية الإرادة وحرية السلوك التي منحها الله للإنسان كاملة تمامًا لأنها نابعة من كماله هو. 4- يتدخل الله في بعض الأحيان لكي لا يترك الإنسان في ضلال طريقه فينذره ويحذّره بدون أي إلزام. وذلك بسبب قلبه المحب. 5- لا بد في النهاية من تطبيق حكم عدالته على المعاندين والرافضين لمشورته الصالحة، دون أن يترك لهم أي مجال لتوجيه الملامة لصلاحه وكماله الأعظم. عود على بدء، تبرز أمامنا بين خلائق الله الأولى شجرتان، كان وسيبقى لهما الأثر العميق في حياة جميع بني البشر في مختلف الأزمنة. "وَأَنْبَتَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ شَجَرَةٍ شَهِيَّةٍ لِلنَّظَرِ وَجَيِّدَةٍ لِلأَكْلِ، وَشَجَرَةَ الْحَيَاةِ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ، وَشَجَرَةَ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ" (تكوين 9:2). وقد ورد ذكر شجرة الحياة في الآية السابقة قبل ذكر شجرة المعرفة، وفي هذا نرى قوة ودقة وحيوية الكلمة الإلهية حيث أن ما ترمز إليه الأولى وهو نعمة الله في المسيح الأقنوم الثاني الأزلي كان موجودًا قبل ظهور الناموس الأدبي الذي ترمز إليه الشجرة الثانية. ولنتأمل في: أولاً: شجرة معرفة الخير والشر "شجرة الامتحان" فنحن نستطيع أن نجد في هذه الشجرة رمزًا كاملاً للناموس. فقد وضعها الله في وسط الجنة وميزها بالجمال والثمر، لكن عقاب الأكل من ثمرها هو الموت! وحتمًا لم تكن ثمار هذه الشجرة مميتة في حد ذاتها لأنه حاشا لله من الشر، فهو لم يخلق شيئًا شريرًا أو مميتًا. ولكنها رغم صلاحها ذاك كانت شجرة امتحان. وهكذا حال وصايا الناموس، فقد كانت بحد ذاتها صالحة ونقية ومع هذا فقد كانت سببًا لموت كثيرين روحيًا لأنهم لم يستطيعوا السلوك حسب جميع ما فيها ولا حفظها كما قصدها الله. هنا أيضًا يتساءل الكثيرون قائلين: طالما أن الله سابق العلم، فقد كان يعلم أن الإنسان سيعجز عن الوفاء بجميع مطاليب الناموس ويصبح مدانًا أمامه من جديد، فلماذا وضعه؟! تُبيِّن لنا كلمة الله أنه لم يضع الله الناموس لكي يختبر بواسطته قدرة الإنسان على عمل الصلاح. ولكن، 1- لكي يثبت للإنسان فشله وعجزه عن خلاص ذاته من سلطان الخطية التي استُعبد لها بعدما سقط الجنس البشري وصار حاملاً طبيعة العصيان. 2- لكي يبرر نفسه تجاه تمرد النفس البشرية وضلالها. الذي كان بعكس مشورته. 3- لكي يعظّم قيمة عمله الكفاري الذي عمله بنفسه لإعادة الخطاة الضالين إليه لأنه أحبهم فضلاً. وقد عالج الرسول بولس بإرشاد الروح القدس هذا المعنى بأسلوب فلسفي رفيع في رسالته إلى أهل رومية 7:7-24 حيث يقول في بعض الآيات: "وَلكِنَّ الْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ. لأَنْ بِدُونِ النَّامُوسِ الْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ" (عدد 8)، "أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ النَّامُوسِ عَائِشًا قَبْلاً. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ، فَمُتُّ أَنَا" (عدد 9)، "فَوُجِدَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي لِلْحَيَاةِ هِيَ نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ. لأَنَّ الْخَطِيَّةَ، وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ، خَدَعَتْنِي بِهَا وَقَتَلَتْنِي" (عدد 10 و11). ثم يتقدم ليسأل هذا السؤال الاستنكاري: "إِذًا النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ، وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ. فَهَلْ صَارَ لِي الصَّالِحُ مَوْتًا؟". ويجيب: "حَاشَا! بَلِ الْخَطِيَّةُ. لِكَيْ تَظْهَرَ خَطِيَّةً مُنْشِئَةً لِي بِالصَّالِحِ مَوْتًا، لِكَيْ تَصِيرَ الْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدًّا بِالْوَصِيَّةِ" (عدد 12 و13). أي لكي تظهر قوة الخطية التي هي الطبيعة الفاسدة التي دخلت إلى قلب الإنسان نتيجة السقوط، وخطية العصيان، وخداعها الرهيب، فهي تستخدم أقدس الأمور لإفساد حياة الإنسان. ثم يتابع كلامه في القسم الأخير من الأصحاح موضحًا كيف دخلت الخطية أولاً إلى القلب البشري وأنشأت فيه الشهوة المسيطرة والتي تقاوم روح الوصية لكي تُحرف القلب عن طريق الصلاح وتزجّه في مهاوي التعدي والإثم. وكأنه يريد أن يوضح أن الناموس صار "مع وجود الطبيعة الفاسدة" كحجر مشوال قصد منه الله بعميق حكمته أن يظهر للإنسان عجزه الكامل وحاجته القصوى إلى عمل الفداء بالمسيح يسوع المخلص. عزيزي القارئ، إن أفكار الجسد تخدعك، والناموس يدينك، ويؤدي بك إلى الموت الروحي، ففتّشْ وابحثْ عن مصدر الحياة لكي تحيا به إلى الأبد والرب معك. البقية في العدد القادم