الكتابة أمر إلهي على كل خادم للإنجيل أن يطيعه... قال الرب لحزقيال النبي: "يَا ابْنَ آدَمَ، اكْتُبْ لِنَفْسِكَ اسْمَ الْيَوْمِ، هذَا الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ" (حزقيال 2:24). وقال ليوحنا وهو في جزيرة بطمس: "وَالَّذِي تَرَاهُ، اكْتُبْ فِي كِتَابٍ وَأَرْسِلْ إِلَى السَّبْعِ الْكَنَائِسِ الَّتِي فِي أَسِيَّا" (رؤيا 11:1).
ولست أطمع أن تكتب مذكراتك بأسلوب الدكتور طه حسين، أو بأسلوب حافظ إبراهيم، أو بأسلوب توفيق الحكيم، بل بأسلوبك أنت مهما كان بسيطًا.
وكتابة مذكراتك ستعطيك صورة لخدمتك، وللناس الذين تحدثت إليهم، وستريك مدى تقدمك في المعرفة وتعمقك في فهم كلمة الله. وسأشاركك في هذه الرسالة في حادث هام في حياتي وكتبته في مذكراتي.
عدت إلى منزلي ذات يوم وفتحت استير زوجتي الباب وهمست في أذني: "الأستاذ عبد المسيح المحامي وزوجته في غرفة الاستقبال ينتظرانك".
كان الأستاذ المحامي وزوجته يحضران من حين لآخر اجتماعاتي. دخلت غرفة الاستقبال وإذ بزوجة الأستاذ المحامي تسلم علي وهي تجهش بالبكاء.
قلت: ماذا حدث؟ أجابت: ويصا، يا حضرة القسيس.
كان ويصا هو ابنها وقد تخرّج من كلية الطب بمرتبة شرف، فظننت أن مكروهًا أصابه... وكنت أعرفه لأنه كان يحضر أحيانًا اجتماعاتي. كانت الأسرة أرثوذكسية، لكنها لم تكن أسرة متعصبّة.
قلت: ماذا حدث لويصا؟
أجاب الأستاذ المحامي: إنها مأساة يا حضرة القسيس! كارثة حدثت لأسرتنا! ويصا ابني قدّم طلبًا في الجامع الأزهر لاعتناق الإسلام.
واستطرد قائلاً: أرسلت له كهنة من كنيستنا، كما أرسلت له مطرانًا، وتبادلوا الشتائم في كل مرة... وخطرتَ أنت ببالنا، فجئناك لعلك تستطيع إرجاعه إلى صوابه.
أخبرني الأستاذ المحامي أين يسكن الدكتور ويصا. فذهبت لزيارته، فلم أجده، فجلست على مقعد البواب أنتظره، وما كاد يراني جالسًا حتى أطلق ساقيه للريح.. وكنت وقتئذ في شبابي فجريت وراءه حتى التقينا وعدنا معًا إلى شقته.
قال: والدي أرسلك إليّ.
قلت: أحسنت الظن.
قال: جاء قبلك كهنة ومطران وانتهت جلساتنا بالشتائم، فهل تريد أن تنتهي جلستنا اليوم بنفس الصورة؟
قلت: أنت طبيب مهذب ومثقف وأنا قسيس. سنتكلم بعقل، إذا اقتنعت بما سأقول كان بها، وإلا فسنبقى أصدقاء. لكنني قبل أن أبدأ حديثي أريدك أن تجيب عن سؤال خطير: ما الذي دفعك لتقديم طلبك للأزهر لاعتناق الإسلام؟
أجاب: أقول لك بكل صدق: أنا لا أؤمن بأي دين. فاليهودية في تقديري ديانة ضالة، والمسيحية ديانة ضالة، والإسلام دين ضال. لكنني أعيش في مصر بلد الإسلام والمسلمين، ولكي أرتقي وآخذ حقي لا بد أن أصير مسلمًا. وعلى هذا قررت أن أقدم طلبي للأزهر لاعتناق الإسلام.
قلت: ولو أثبتّ لك أن المسيحية دين إلهي، فهل تتراجع عن اعتناق الإسلام؟
قال: إذا اقتنعت بكلامك فبكل تأكيد أسحب طلبي ولا أعتنق الإسلام.
قلت: نبدأ من الأساس. والأساس هو الكتاب المقدس. والكتاب المقدس كتاب موحى به من الله، وسأعطيك البراهين.
حدثته عن البرهان النبوي، فكل النبوات التي وردت في الكتاب المقدس تمت، وتتم، وسوف تتم. وذكرت له البرهان العلمي، وما قاله الكتاب عن كروية الأرض، وعن ضربة القمر، وعن تعليق الأرض على لا شيء، وذكرت له برهان الرموز التي انطبقت على شخص المسيح: تقديم إسحاق، وخروف الفصح، والصخرة المضروبة، والحية النحاسية المرفوعة في البرية. وذكرت له برهان وحدة أسفار الكتاب المقدس، وبرهان أناقة ترتيبه وبرهان تأثيره في حياة الأفراد والشعوب التي تستنير بنوره.
وانتقلت في حديثي إلى ذات الله... وأريته أنه من سفر التكوين إلى سفر رؤيا يوحنا نرى الله الجامع في وحدانيته الآب والابن والروح القدس... ومررت على حقيقة وحدانية الله الجامعة في هذه الأسفار التي تظهر بنور باهر.
واستطردت للحديث عن حتمية صلب المسيح، وكيف أن صلب المسيح لم يكن حادثًا في الزمان، بل كان تدبيرًا أزليًا، ليعلن غضب الله على الخطية، وعدالة الله في عقاب الخطاة، وحب الله العظيم للبشرية.
وأريته كيف صوّر إشعياء النبي مشهد صلب المسيح ودفنه قبل حدوثه بسبعمئة سنة.
وانتقلت إلى الحالة الأبدية، إلى المجد الذي أعده الله للذين يؤمنون إيمانًا قلبيًا بالمسيح المصلوب، والعقاب الذي ينتظر الرافضين لصليب المسيح.
وحدثته عما صنعه المؤمنون بالمسيح، وعن الأفراد، والعائلات التي قبلته مخلصًا وربًا ونوع الحياة التي يعيشونها. وأوضحت له أنه منذ سقوط آدم وحواء، والنسل الذي جاء منهما، انقسمت البشرية إلى ديانتين: "ديانة قايين" التي كانت بوحي الشيطان، و"ديانة هابيل" التي كانت مؤسسة على الإيمان. ديانة قايين ديانة القتل، والإرهاب، والإغراق في الشهوات، وديانة هابيل التي أعلن الله رضاه عنها لأنها كانت مؤسسة على دم الذبائح الذي كان يرمز إلى دم الذبح العظيم يسوع المسيح.
استغرق الحديث ثلاث ساعات، بعدها قال لي الدكتور ويصا: كل ما ذكرته لي حق عظيم. لكن، لماذا لا يقوله كهنتنا لنا؟
قلت: أنا لم آت لأناقش الطوائف، أنا جئت لأجلك.
قال: قل لوالدي أنني سأسحب غدًا طلبي من الأزهر.
وهكذا كان.. سحب الدكتور ويصا طلبه من الجامع الأزهر، وسافر إلى سويسرا، وتزوج فتاة سويسرية مسيحية، ونجح كطبيب في سويسرا نجاحًا ممتازًا.
وملأ الفرح قلبي لأنني أتممت كلمات يهوذا أخو يعقوب: "وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ، مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ" (يهوذا 23).
فيا خادم الإنجيل، اكتب مذكراتك عسى أن تجد فيها بعد سنين ما عملت لأجل المسيح.
زميلك في الخدمة المقدسة
القس لبيب ميخائيل