"من يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية." (غلاطية 8:6)
يقول الكتاب: "ازرعوا لأنفسكم بالبر، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لأنفسكم حرثًا فإنه وقت لطلب الرب." (هوشع 12:10)، ومعنى هذا الكلام هو أن نكرس كل جهدنا، ووقتنا، وأموالنا، وتفكيرنا للأمور الروحية كالصلاة، والخدمة، والسعي وراء النفوس الضالة، والعمل على انتشار كلمة الله ومواساة المرضى والحزانى والمتألمين، فرحًا مع الفرحين، وبكاء مع الباكين. نسند الضعيف، ونشجع العاثر، ونبني كنيسة المسيح.
ومع ما في هذه الأمور الروحية من لذة لا تعادلها لذة فإن لها أيضًا بركاتها المستقبلة للحياة الأبدية. فكلما اهتمّ أولاد الله بها زاد لمعانهم في الأبدية، وكثرت أكاليلهم، وارتفعت مكانتهم أمام الله والملائكة والقديسين في السماء. وقد لمس الرب هذا الأمر في عظته على الجبل حينما قال: "اكنزوا لكم كنوزًا في السماء، حيث لا يُفسد سوس ولا صدأ، وحيث لا ينقب سارقون ولا يسرقون." (متى 20:6)، وبالتأكيد كان يقصد بهذا الكلام إنفاق الأموال في عمل الله.
يا أحبائي، إن من يزرع للروح لا تتلف زراعته أبدًا، بل لا بد أن يحصد حصادًا روحيًا وفيرًا للحياة الأبدية. ولن يندم أبدًا كما يندم الأشرار على جهد ضائع أو مال تالف. ولن يقول أبدًا قول الفاشلين من التلاميذ "تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا." (لوقا 5:5)
إن الرسول بولس الذي زرع كلمة الله في قلوب المؤمنين، وتعب في رعايتهم والاهتمام بهم، لم يتعب باطلاً، بل يقول لهم: "متمسكين بكلمة الحياة لافتخاري في يوم المسيح، بأني لم أسعَ باطلاً ولا تعبت باطلاً."
قال الرسول بطرس للرب يسوع: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟" (متى 27:19) فرد الرب عليه بالقول: "الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنت أيضًا على اثني عشر كرسيًا... وكل من ترك بيوتًا أو إخوة أو أخوات أو أبًا أو أمًا أو امرأة أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي، يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبدية." (متى 28:19-29) إن أي نصيب عالمي مصيره الزوال والانتهاء، ولكن من يتخذ الرب نصيبه فلن يُنزع منه إلى الأبد.
يا من تزرع للروح، وتكرم الرب، وتتخذه نصيبك، وتجعل خدمته هدفك، تأكد أن الرب سوف يكرمك روحيًا هنا على الأرض، وهناك في الأبدية. يقول أيوب: "تعرّف به واسلم. بذلك يأتيك خير. اقبل الشريعة من فيه، وضع كلامه في قلبك. إن رجعت إلى القدير تُبنى. إن أبعدت ظلمًا من خيمتك، وألقيت التبر على التراب وذهب أوفير بين حصا الأودية. يكون القدير تبرك وفضة أتعاب لك." (أيوب 21:22-25)
إذًا يا إخوتي، لا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في أوانه إن كنا لا نكلّ.
الزارع بالدموع يحصد بالابتهاج
"الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج. الذاهب ذهابًا بالبكاء حاملاً مبذر الزرع مجيئًا يجيء بالترنم حاملاً حزمه." (مزمور 5:126)
الفلاح وهو يهيّئ الأرض للزراعة يتعب، ويشقى، ويتحمّل حرّ الصيف اللافح وبرد الشتاء القارص، ويسكب في الأرض عصارة جهده وعرق وجهه. ويستمر جهاده حتى تبدو ثمار تعبه عندما يأتي وقت الحصاد. وعندما يرى المحصول الوافر ينسى التعب والعرق والدموع، وتبدو على محيّاه علامات الفرح والبهجة وهو يتأمل المحصول بين يديه. هكذا كل من يعمل في حقل الله.
إن العامل في كرم الرب يجاهد تمامًا كما يجاهد الفلاح، وعندما يبذر كلمة الله على أرض القلوب يتعب، ويشقى، ويبكي، ويتألم، ويقضي الليالي في صراع مع الله، ويقضي الأيام في الصراع مع البشر. يثابر، ويصبر، ويكتب، ويعظ، ويزور، ويفتقد، ويصلي، وينشغل بالنفوس العزيزة الغالية على قلب الرب. وعندما يخلّص الرب نفسًا بواسطته يحسّ بالبهجة التي لا تعادلها بهجة، وينسى تعب الماضي كله، لأنه يدرك أن نفسًا واحدة أسمى وأغلى من العالم بكل ما فيه. إن خلاص النفس هو وقت الحصاد بالنسبة له، فيفرح كما فرح الأب برجوع ابنه الضال، ويقول معه: إفرحْ "لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجِد."
إن الدموع التي نسكبها لأجل النفوس يحفظها الله في زقّه، ولا بد أن يكرمها إلهنا، ويومًا من الأيام ستتحوّل هذه الدموع إلى نغمات فرح وابتهاج، إذ نرى النفوس التي تأوّهنا عليها ونِحنا لأجلها أمام الرب قد تمتّعت بالخلاص، ونالت معنا إيمانًا مساويًا لنا.
لقد تعب الرب يسوع، وتألّم، وبكى لأجل النفوس، فرأى من تعب نفسه وشبع. "إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه، ومسرّة الرب بيده تنجح." (إشعياء 10:53)
وبكى الرسول بولس، وأنذر كل واحد بدموع، فرأى حصادًا وفيرًا من النفوس الغالية، ولا زالت دموعه وخدماته وأتعاب محبته تجذب الآلاف كل يوم إلى حظيرة المسيح.
وبكت القديسة مونيكا لأجل ابنها أوغسطينوس الشرير، حتى تألم لأجلها الأسقف وقال لها: "إن ابن هذه الدموع لا يمكن أن يهلك." وهكذا كان، لأن أوغسطينوس تجدّد بقوة وكان سبب تعزية لقلب والدته.
أيها الآباء الذين تبكون وتصلون لأجل أولادكم الخطاة. أيها الخدام الذين يتعبون في كرم الرب، والذين يواصلون ليلهم بنهارهم سعيًا وراء النفوس... أيها الإخوة الأمناء الذين تتألمون هذا النوع المقدس من الألم، وتسكبون هذا النوع المقدس من العرق... ثقوا أنكم لا بد أن تفرحوا وتستريحوا، لأنه هكذا قال الرب.
فقط نحتاج إلى المثابرة، وعدم اليأس في خدمتنا وصلاتنا، والنتائج مضمونة مئة في المئة.
سمعت البعض يتحدثون عن موضوع الخدمة فيقولون: "عليّ أن أخدم وليس عليّ أن أضمن النتائج." وخدمة هؤلاء ليست هي الخدمة الحارة، التي تسعى جاهدة، والتي تمسك بالرب بشدة في شفاعتها لأجل النفوس الغالية. إنها خدمة العين كمن يرضي الناس. خدمة باردة، على عكس خدمة الرسول بولس الذي قال: "إن لي حزنًا عظيمًا ووجعًا في قلبي لا ينقطع... لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد." (رومية 2:9-3)
إن الزراعة الروحية تحتاج إلى الدموع التي ترويها، فحينئذ تنجح وتثمر، لأن "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج."