أيار (مايو) 2009
أدرك حبقوق، آخر الأمر، أن الكلدانيين ليسوا إلا عصا استخدمها اللّه ثم كسّرها بعد ذلك تكسيراً، وأدرك حبقوق أن اللّه الذي أخرج شعبه من مصر بقوة وذراع عظيمة، هو الذي يتمشى في موكب العصور بقوته القادرة، وسلطانه الرهيب، وسبيل المؤمن على الدوام مركَّز في العبارة العظيمة الخالدة: ”البار بإيمانه يحيا“، أي أن المؤمن سيحيا في وسط الأخطار والمخاوف والحروب بثقته في اللّه، ويقينه في حراسته وخلاصه.
هذا هو المعنى الأول والمستفاد من الآية، على أن المعنى البعيد العميق يشير إلى أن خلاص النفس البشرية من خراب الخطية وشرّها يرجع دائماً إلى اليقين باللّه والإيمان به. وعلى هذا الأساس بنى بولس العقيدة العظيمة على التبرير بالإيمان، وامتلأ لوثر سلاماً واطمئناناً وهو يضع دعائم إصلاحه المجيد.
كان الأصحاح الثالث من سفر حبقوق أغنية رائعة منتصرة خرج بها حبقوق من وسط الخراب والدمار بالفرح والترنم وختمها بالكلمات التي قال ”أسبرجن“ عنها أنها ينبغي أن تُكتب بماء الذهب: ”فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ، وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ. يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونَةِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا. يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي. اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي، وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ، وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي“ (حبقوق 3:17-19).
هل يستطيع الإنسان أن يمسك قيثارته ويغنى، في مثل الظروف التي يتحدث عنها حبقوق؟ هل يمكنه الغناء في أرض الحاجة والمجاعة والتعب؟ يذهب إلى التينة فلا يجد حتى الزهور؟ وينتقل إلى الكرمة فلا يجد عناقيد العنب؟ ويتحوّل إلى الزيتونة فيجدها وقد امتنعت عن الإثمار؟ يترك هذه إلى الحقول، فلا يجد حنطة أو طعاماً؟ يذهب إلى الحظيرة فلا يجد غنماً؟ وإلى المذاود فلا بقر هناك؟!! كان من المنتظر أن يبكي ويتذكر وينتحب، ولكنه رغم كل هذا كان يغني!!
ما سر حبقوق؟
وما سر كل مؤمن نظيره؟
إن السر يرجع في الحقيقة إلى أن الخراب مهما حدث، ومهما أخذ، لا يمكن أن يأخذ منه ثروته وقوته الحقيقية التي هي في شخص اللّه. ترك بولس أرضه وبيت أبيه، ترك امتيازاته، وظروفه الحسنة، وسار في أرض الخراب لا يملك شيئاً، ولكنه مع ذلك قال: ”بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ“ (فيلبي 3:7-8). ولم يكن بولس وحده في هذا المضمار، بل ما أكثر القديسين والأبطال الذين غنوا في أرض الخراب؟!
لقد فقد ”يوحنا بنيان“ أمنه وهدوءه وقضى في السجن اثني عشر عاماً، وهناك كتب كتابه العظيم "سياحة المسيحي"!
عاشت فرانسيس هفرجال ”حياتها“ الصحية العليلة، ولكنها ارتقت فوق علتها، وغنت أعظم الأغاني والترانيم! إن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن وجود اللّه في أرض الخراب، يحوّلها إلى جنة وارفة مكتملة الجمال والجلال والبهجة! على أن حبقوق كان يؤمن - إلى جانب هذا - بخلاص اللّه في أرض الخراب، إذ أن معونة اللّه هناك أقوى وأظهر وألمع!
ألم يدخل يوسف السجن، ورأت نفسه أقسى ضروب الآلام والتعاسات؟ ولكن اللّه دخل معه هناك ليخرجه إلى الحرية والسيادة والمجد!
ألم يكن موسى ملقى في السفط على حافة النيل في أرض الخراب؟ ولكن اللّه مدّد له فرصة الحياة على الصورة العجيبة التي وصل إليها!
ألم يقف اللّه في كل العصور والأجيال مع البؤساء والمعوزين والمتألمين، على النحو العجيب الذي جعلهم يتمشون على مرتفعات الحياة في أقسى الأوقات وأدقّ الظروف؟!
بعد أن قامت الحرب العالمية الثانية بعامين، جاءت أوقات دقيقة على المرسلة القديسة ”لليان تراشر“، وقد انقطعت كل المعونات والمساعدات، وبلغت الحالة أقصاها في يوم من الأيام، فجمعت لليان أربعمائة وخمسين من البنات، وظللن يصلين يوماً بأكمله، وفي اليوم الثاني دُعيت هذه السيدة لمقابلة عاجلة مع السفير الأمريكي في القاهرة، وقال لها السفير: إن سفينة للصليب الأحمر كانت معدة للذهاب إلى اليونان، وبها أطعمة وملابس، ولكن الأوامر صدرت لها وهي في عرض البحر الأبيض أن تذهب إلى الإسكندرية، لأن اليونان قد اكتسحتها قوات المحور، وطلب السفير من ”تراشر“ أن تأخذ كل ما تحتاجه من السفينة المذكورة، وغنّت القديسة وفتياتها أغنية الفرح في أرض الخراب!
لست أظن أن هناك ما يمكن أن نختم به قصة حبقوق، أفضل من ذلك القول الذي قاله أحدهم وهو يسمع عن العذاب الأحمر في الصين، أو في روسيا، أو في شتى ألوان المتاعب والاضطهادات بين الناس متسائلاً: ألا يجوز أن نقول ما قاله حبقوق قديماً:
”حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَدْعُو وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟“
وكان الجواب:
”اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِكَيْ يَرْكُضَ قَارِئُهَا، لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ“.