أيار (مايو) 2009
”لم أصدّقْ ما شاهدتْه عيناي، وللوهلة الأولى حَسِبتُ أني أحلم. لا، لم يكن حلماً، بل هو كابوسٌ مريع. وأحسستُ أنَّ الدنيا كلَّها قدِ انقلبتْ على رأسي. وللحيظةٍ فقط خِْلتُ أنَّني وحدي أتحدَّى العالمَ بأسرِه وعلى رأسهم أبي الذي أتى بي إلى هذا الوجود. إذ كان يقفُ أمامي كالأسد الزائر وهو يحملُ في يده سكيناً حادة يريدُ بها تمزيقَ جسدي الرقيق. وفجأة شعرتُ بجرأةٍ غريبة تنبع من حنايا نفسي الداخلية، وبقوةٍ عجيبة لم أعهدْها من قبل تجري في عروقي وتتسرّبُ إلى روحي وتبعثُ فيَّ الأمان والسلام“.
هذا ما حدَّثتني به سيدةٌ آتية من شمالي أفريقيا وهي تبوحُ لي بمكنوناتِ قلبها الذي طالما بقي معذّباً ومتألّماً من جرَّاء العيش أسيراً للعاداتِ والتقاليد، وكانَ مكبَّلاً مقيَّداً كالعصفور في قفصه يحاولُ أبداً البحثَ عن المخرج. لكنَّه بقي مستعبداً وراء قضبان حديدية تحبسُ حريته وتُبعده عن الانطلاق والعيش في أرجاءِ العالم الفسيحة. وعندما استفسرتُ منها عمَّا حدث في إحدى الجلسات قالت: إليكِ قصتي كاملة:
”وُلدتُ في أحد بلدان شمالي أفريقيا لأبوين متديِّنَيْن، يتكلَّمان اللغةَ الأمازغية بالإضافة إلى العربية. هاجرتُ مع باقي العائلة إلى فرنسا عندما كان عمري أربع سنوات فقط. وهناك ترعرعت وكبرت وتعلَّمت في المدارس الفرنسية بالإضافة إلى لغتي الأم التي تلقّنتها أيضاً بواسطة معلمين من بلدي. لكن ما أن صار عمري سبعةَ عشر ربيعاً، حتى قرر والديّ يحزم وصرامة بأن نعودَ أنا وأمي وإخوتي جميعاً إلى موطننا الأصلي. ولما سألته عن السبب قال لي بالحرف الواحد: لقد أصبحتِ شابة في عمر الزهور وخلالَ شهور معدودة تصبحين حرَّة. فليس هناك من حلٍّ آخر سوى أن نرحلَ جميعاً عائدين إلى ديارنا. وقع قراره هذا عليَّ كوقع الصاعقة. لكنَّني رضختُ للأمر الواقع إذ لم أبلغْ بعد السنَّ القانونية الذي أستطيع فيها أن أكونَ حرَّة حقاً وأقرِّر بنفسي ولنفسي. وهكذا رجعْنا إلى وطننا تاركين وراءنا بيتنا وأصدقاءنا ومدارسنا وأحبابنا، وفرنسا التي تربَّينا فيها وأحببناها وأصبحنا فيها من رعاياها.
”وهنا في بلدي أرغَمني والدي على الزواج من رجل اختاره هو لي. دام زواجي منه سبعَ سنين عشتُ فيها جحيماً لا يُطاق. مع أنَّني أنجبتُ منه طفلَين جميلَين كانا كلَّ حياتي، إلا أنني لم أتفق مع زوجي، ولا مع أهله. إذ شعرتُ وكأنني أعيشُ في سجن ليس فيه من مهرَب. ولمَّا طلبتُ الطلاق، رفضَ رفضاً قاطعاً وعاد وأكَّد لي بأنَّ حياتي معه ومع والديه ستبقى هكذا ولن تتغير. وأضاف: "هذه هي عاداتُنا وتقاليدُنا، هكذا نشأنا وهكذا سنبقى." عندها اسودَّت الدنيا في عينيّ، وتركتُ البيتَ راجعةً إلى بيت أهلي. لكنَّ والدي لم يرحِّب بي وأشعرَني بعدم رضاه على هجري بيت الزوجية. وهنا همْتُ على وجهي إلى حيث لا أدري. وذهبتُ قاصدةً القنصلية الفرنسية علّني أجدُ عندهم الحلّ. لكنَّ أملي خاب حين قالوا لي بأنهم لا يقدرون أن يتدخَّلوا في أمورٍ شخصيةٍ كهذه، وأنَّه من المستحيل عليّ أن أهربَ إلى فرنسا مع أولادي. فأرشدوني إلى الكنيسة الكاثوليكية عساني أجدُ فيها مَنْ يساعدُني ويعينُني. فذهبت إلى هناك. لكنَّني فوجئت بنفس الموقف يتكرَّر أمامي. وقبل أن أغادر الكنيسة اقترحوا بأن أذهب إلى إحدى السيدات المرسلات هناك. فذهبُت إليها. وما أن دخلتُ بيتَها حتى انفجرتُ باكيةً من كثرة ما خالج نفسي من أحاسيسَ ومشاعر سلبيةٍ تنمُّ عن معاناةٍ عميقة. وبدأتُ أخبرُها قصتي وعذابي مع أهل زوجي. نظرَتْ إليّ نظرةَ تعاطُفٍ كبير، وقالت لي: للأسف، ولا أنا أقدر أن أساعدك يا ”ز“. لكن أعرف مَنْ يستطيع. قلتُ لها وبحرقةِ قلب: أرجوكِ، أخبريني مَن هو؟ قالت إنه يسوع المسيح. قلت لها بعفويةٍ: وهل يقدر أن يُرجع لي أولادي؟ أريد أن أذهب إليه. أين هو؟ قالت: يسوع المسيح المخلص الوحيد. أنتِ بحاجة شخصية إليه يا عزيزتي. سواءً بأولاد أو بدونِ أولاد. قلتُ والاستغراب بادٍ على محيَّاي والدهشة كادت أن تعقِدَ لساني: أتقصدين عيسى بن مريم؟! قالت: بالضبط تماماً. عندها احتدَّت روحي في داخلي، واستشطتُ غضباً وبدأتُ أناقش معها عن عيسى النبي كما أعرفُه أنا من القرآن. وكانت كلَّما قدَّمتْ لي برهاناً عن أنَّه الفادي وهو الذي أتى ليغفرَ ذنوبَ البشرية جمعاء بما فيهم ذنوبي أنا، حاولتْ دحضَ الحججِ والبراهين تلك. وبقينا على هذه الشاكلة نتناقشُ معاً لمدةِ أربعة أيامٍ متتالية. وفي اليوم الرابع سطعَ نورٌ عجيب في داخلي، فأضاءَ قلبي وفكري وأزالَ الغشاء عن عيني، وأدركت في تلك اللحظة حاجتي الشخصية إلى المخلص لأنني خاطئة وسأهلك هلاكاً أبدياً. رحتُ أشهق وأبكي ولمدة أربع ساعات متواصلة، نادمةً على خطاياي. وطلبتُ من الله أن يغفر لي ذنوبي ومعاصيَّ. قبلني ربي وغفر لي كل خطاياي، وصرتُ ابنةً لله مبرَّرة بدم يسوع المسيح المخلص. ولدهشتي العظمى فوجئت بهذه السيدة تسأل فيما بعد إذا كنتُ أعرف شخصاً يتكلم ويقرأ اللغة الأمازغية ويكتبها جيداً، وأخبرتني أنها كانت تصلي لمدة طويلة كي يرسل لها الله من يترجم لها الإنجيل إلى الأمازغية. صرخت بأعلى صوتي وقلت: أنا أتقن اللغة الأمازغية. رفعت يدها شاكرة الله على هذه العجيبة. وناولتْني للحال الإنجيل بحسب متى. وشرعْتُ أنا بالترجمة. وكان هذا هو مشواري مع يسوع المسيح الذي غيَّر حياتي بالكلية. إذ رافقْتُه وهو يعلّم الجموع على الجبل ويقول لهم: ”أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ“. كنت أمشي مع يسوع وأتعلم منه. كنت بمحاذاته وهو يشفي المرضى ويقيم الموتى ويفتح أعين العميان. أحسست به في كلِّ سطر قرأته وترجمته. انكببْتُ على هذا العمل شهراً كاملاً إلى أن أنهيت الإنجيل بحسب متى، وعدْتُ بعد ذلك إلى بيت والدي.
”ولمَّا اكتشف والدي أنني أضحيت من أتباع عيسى المسيح، غضب جداً عليَّ وأمهلني ثلاثةَ أيامٍ أراجعُ فيها حساباتي. وإلا لفعلَ بي ما يريد. جاءَ اليوم الثالث، وفوجئتُ به يتقدَّم مني والشَّرر يتطايرُ من عينيه، ويقول لي: هذه هي فرصتكِ الأخيرة. فهل عدتِ عن قرارِك المضلِّ هذا؟ قلت: لا يا أبي. فأنا الآن متأكدة أكثر من ذي قبل من إيماني بالمسيح. عندها أسرعَ وأحضر السكين وهجم علي كالوحش الكاسر يريد طَعْني. ففاجأته أنا بجرأةٍ غير عادية، منَّ بها عليَّ ربي وإلهي وقلت له للحال: كيف تريدني أن أعود إلى الظلام بعد أن عرفت النور؟ هاك جسدي كلَّه أمامك هيا إطعنِّي، لأنك إذا فعلت فلسوف تقتلُ هذا الجسد فقط أما روحي فستلتقي بيسوع الحبيب. أجفِلَ من حماسي الشديد، ومن هولِ المفاجأة راحت يدُ أبي ترتجف فوقعتِ السكين أرضاً. عندها صرخ في وجهي قائلاً: هيا اغربي عن وجهي وطردني من البيت! وليس هذا فحسب بل تبرَّأ مني أمامَ كلِّ أبناءَِ القبيلة والأهل والأصدقاء، وكان وقعُ هذا عليَّ أصعبَ من القتل نفسه.
”ومرَّت شهور وأنا بعيدة عن عائلتي كلِّها، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان. إذ تحركت أحشاء أخي الأكبر عليَّ وأراد أن يساعدني. وهكذا وجد لي محامياً ذا مكانةٍ عالية، استطاع أن يطلِّقني من زوجي، وحصلت أنا على حضانةِ الطفلين الصغيرين. كانت هذه بالحق معجزةً كبيرة بحدِّ ذاتها. تشجعت جداً من خلال تعامُلِ الله معي في ضيقي، وبدأت أنمو في الإيمان وعملْت مع فريق الترجمة للانتهاءِ من العهد الجديد بأكمله. بعد ذلك بعدة أعوام كشفَ الروح القدس الغشاءَ عن عينيِّ أخي وذهنِه، وشعَّ النور في داخله هو الآخر، وأدرك حاجته القصوى إلى المخلص الفريد يسوع المسيح، فتاب وندم على خطاياه وصار الآن يرعى كنيسةً بأكملها فيها من الكبار والصغار العديد. وانضمَّت أمي وإخوتي أجمعون إلى عائلة بيت الله المقدسة. وشرعتُ أنا بإخراج برنامجٍ إذاعي للمرأة في شمالي أفريقيا، يذاع الآن عبر إذاعة حول العالم لبنات جَلْدتي. أما أبناي فلقد تزوَّج الكبيرُ منهما وأصبح لديه عائلة مسيحية حقيقية، أما الثاني فهو على وشك الزواج أيضاً. فشكراً وألفَ شكر لله على محبته العظيمة، ومعاملاته العجيبة، وفوقَ الكل على نعمته الفائقة.
(ز) من شمالي أفريقيا