Voice of Preaching the Gospel

vopg

تشرين الأول (أكتوبر) 2009

المستشفى العسكري، بيروت - لبنان
والدتي الحبيبة،
أكتب إليك هذه الرسالة، وأنا منزوٍ في حجرة هادئة، في هذا المستشفى، حيث خلوت إلى نفسي في غربة غامضة عن هذا العالم، أنقب في ذاتي، صادفاً عن كل ما عداها، لعلني، في أُلقة نورانية، ألتقط وميض الحياة التي تسري في ديمومة هذا الوجود - قشعريرة تهز في أعماقي مستغلفات، هي للموت أكفان وأضرحة. وما كنت أظن يا والدتي أن المؤمن، في غلو هذه الحياة المجنونة تترصده مخاطر الرعب، فلا ينجو منها من غير معجزة إلهية..


ولعل ما أحدثك به يا أماه مألوف لديك، فأنت ارتقيت في مدارج الحياة الروحية حتى استشرفت على آفاق أصبحت أتوق إلى بلوغها بعد أن وقفت، للحظات، أمام تنين الموت، فأحسست بلفح أنفاسه اللاهبة تكاد تحرق جسدي.
الموت! نعم الموت.
لا تجزعي يا أماه، فلقد كانت تجربة مخيفة خرجت منها سالماً بفضل رعاية إله محب، وصلاة أم يتفجّر قلبها بحنان سخي.
إنني كلما فكرت بهذا الحدث يعتريني ارتياع مخيف، ولكن...
دعيني أسرد عليك حكاية الرعب هذه:
منذ ثلاثة أيام، حلقت بطائرة التدريب العسكرية كعادتي في كل يوم، واتجهت بها شرقاً، فوق قمم الجبال، واخترقت حجب سحب الضباب المتكاثف. ثم ارتفعت قليلاً حتى تحررت من الغيوم، فعانقتني أشعة الشمس الدافئة، وشعرت بغبطة ممتعة تغمر نفسي، وكأنني على هذا الارتفاع، أصبحت قريباً من الله. فأخذت تتداعى إلى ذهني بعض ما استظهرته من آيات المزامير... فأنا على هذا العلو الشاهق أرى الأرض على ضوء معطيات جديدة ما كنت لأفكر فيها لو ظلت قدماي مشدودتين إلى التراب. ربما إحساس المرء أنه معلق ما بين الأرض والسماء يولّد فيه مشاعر متناقضة، تحلق به تارة وتهوي به طوراً، تماماً كما يحدث للطائرة التي تقلّني.
وفي هذا اليوم كنت محلقاً في جو رائع من النشوة النفسية، وتذكرت حكاية سردها والدي على مسامعي ذات يوم، عن طفل حمله والده بين ذراعيه بعد أن ربط نفسه بحبل متين، وأراد أن ينحدر به نحو مسطح من الأرض من خلال جرف جردي مخيف، فسأل الوالد طفله:
-  أخائف أنت يا بنيّ؟
-  لا، يا أبي.
-  لماذا؟
لأنك تحملني بين ذراعيك.
وهذا هو الشعور الذي خامرني وأنا أتلاعب بطائرتي بين الغيوم، أحلّق بها في اتجاه الشمس فتلتمع أجنحتها البيضاء ثم أهبط بها فجأة حتى أختفي في الغيوم، لأعود فأنطلق من جديد نحو الجنوب. كنت أحسّ كالطائر الطليق، يملأني فرح طالما كنت أتوق إليه على الأرض، فأحببت أن أظلّ متعالياً في الفضاء، بعيداً عن الناس، في هدوء نفسي سعيد. وما لبثت أن اتصلت بمقر قيادتي، فسمعت صوت ضابط الارتباط يسألني عن الطقس، وعن خط سير الطائرة، فكنت أجيبه بصوت مفعم بالمرح... وكأنما هذا الإحساس أثار في نفسي شيئاً من الاعتداد بالغرور، فأوغلت بطائرتي جنوباً، وشرعت أحلّق من جديد بين الغيوم ثم أنحدر بها نحو سفوح الجبال في حركات بهلوانية كنت مولعاً بها. ولم أدرِ أنني اخترقت أجواء الأعداء وأصبحت فوق خنادق العدو. وفجأة شعرت بالطائرة تهتزّ في الفضاء وكأن شيئاً اصطدم بهيكلها في أثناء حركة بهلوانية انحدارية. وسمعت صوت ضابط الارتباط يهتف بي من خلال اللاسلكي:
-  عد، أيها المجنون، أسرع، أنت تطير في أجواء العدو.
وقبل أن أجيب على ندائه، لمحت مؤشر البنزين ينخفض بسرعة مخيفة نحو الصفر، فأدركت أن رصاصة قد انطلقت من بندقية عدو فأصابت خزان الوقود، فاعتراني رعب مخيف وكدت للحظة أن أفقد رباطة جأشي. ورحت أفكر بسرعة.
-  إنني لا أريد أن أُقتل فوق خطوط أعداء بلادي. عليّ أن أعود إلى أرض وطني. وإذا سقطت بي الطائرة وقتلت فلأمت فوق ثرى بلدي.
غير أن فكرة الموت نفسها أفزعتني. أيمكن أن أموت وأنا في ريعان شبابي؟ أيكون هذا مصيري وأنا أتطلّع بأمل متوثّب نحو غد مشرق؟ لا، لا، أنا لا أريد أن أموت، يجب أن أنجو. وكأنما الموت والحياة رهينان بي... وطفقت خواطر مجنونة تعصف برأسي المكدود، وإذا بعالم النشوة الذي كنت أحلّق به قد تبدّد في لحظة الرعب وأخذَت صور الماضي تلوح لي، في حلقات متتابعة بوضوح مشعّ، فرأيت نفسي على حقيقتي من غير أصباغ ولا ألوان، وعرفت أنني مؤمن طفل لم ينمُ في الحياة المسيحية منذ اللحظة التي اختبرت فيها الخلاص، بل انهمكت في مشاغل الدنيا التي ملأت حياتي، في اكتفاء كلي، بالخطوة الأولى التي خطوتها وما أعقبها بعد ذلك من توقف محزن. أجل، لقد أدركت في غمرة رعبي كم كنت بعيداً عن إلهي، وأن تلك النشوة الروحية التي فاضت عليّ كانت بتأثير شعور دافق بالحرية وأنا أهيم في الأجواء حيث تكتحل عيناي بمرأى الطبيعة على مدّ البصر.
وأمام هذه الحقيقة، رفعت قلبي بصلاة حارة ما كنت لأصليها من قبل، وتعهدت أمام الرب أن أستهل معه حياة جديدة إن أبقاني على قيد الحياة...
واتجهت بالطائرة نحو ممر بين جبلين، ثم التففت نحو تلة خضراء. ولكنني لم أتمكن من العثور على موضع صالح للهبوط، فعدت أصعد من جديد وعيناي شائعتان حولي تبحثان على سهل منبسط، ومع كل ثانية تمرّ كان أملي بالنجاة يتلاشى، ولكن لم ألبث أن شاهدت قطعة من الأرض مسطحة تمتد أمام باصرتي، فأدركت على الفور، أن هذه هي فرصتي الوحيدة للنجاة، وإن لم أغتنمها، على الرغم ما فيها من مخاطر، فإنني لن أتمكن من... ومرة أخرى تذكرت قصة الصبي الذي كان مطمئناً في أثناء انحداره من على جرف جردي، لأنه كان آمناً بين ذراعي أبيه. فتمتمت بصلاة خاشعة:
- يا إلهي، إنني ألقي طائرتي هذه ونفسي بين ذراعيك، فساعدني كي أهبط إلى الأرض بأمان...
وتوجّهت نحو قطعة الأرض المسطحة قبل أن يلتهم المحرك ما تبقّى من وقود، وهبطت نحو الأرض من خلال زاوية شديدة الانكسار، فأنا أحتاج إلى كل ثانية من الزمن... وقبل أن تصطدم الطائرة بالأرض أنزلت عجلاتها بقلب خافق وأغمضت للحظة عيني... وصرخت:
-  يا رب أعنّي...
واصطدمت الطائرة بالأرض، بعنف، ولم أدرِ بعد ذلك ما حدث. وعندما أفقت وجدت نفسي راقداً في المستشفى العسكري، حيث كانت تطلّ عليّ عينان جميلتان هادئتان هما عينا الممرّضة. وابتسمت لي الممرّضة عندما رأتني أتلفّت حولي مذهولاً، وقالت:
- إهدأ، أنت بخير... الحمد لله على سلامتك...
فغمغمت:
-  ماذا جرى؟
-  ماذا جرى! لقد عدت من الموت.. وهذا هو المهم...
وفجأة تذكرت كل شيء، واغرورقت عيناي بعبرات عرفان بالجميل! أجل يا أماه، لقد استجاب الله صلاتي في لحظات قنوطي، وأنقذني من موت محتم. لقد وفى بوعده، وعليّ أن أفي أنا أيضاً بتعهّدي. ربما كان لا بد أن أقتحم غمار هذه التجربة لأواجه نفسي على حقيقتها، فكان الموت بملامحه الرهيبة هو الصرخة التي أيقظتني من سبات حياتي الروحية الغافلة.
لقد التقيت الموت وجهاً لوجه فعرفت سر الحياة في المسيح!
أوَليس عجيباً أن يكون الموت سبيل حياة...
أخبريني.
ابنك المخلص
منير

المجموعة: 200910

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

242 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10572453