المجلة
مع بداية هذا العام كنا قد احتفلنا بسرور، واحتفل العالم معنا بعيد الميلاد.
واليوم ها نحن نعيش مواسم عيد بهيج آخر بدأ بأسبوع الآلام ثم تُوِّجَ بعيد القيامة.
وتتكرر مواسم الأعياد مع تتابع السنين لتذكِّر الداني والقاصي بما تحمله من معان وقيم ومبادىء.
في ذكرى ميلاد المسيح عيد نحتفل به بابتهاج، وفي ذكرى قيامته من القبر عيدٌ أيضًا نحتفل به باعتزاز.
وتساءل أحدهم: أي العيدين هو الأعظم؟!
وسألت نفسي السؤال نفسه، أيهما أعظم؟ أميلاده من عذراء عفيفة لم يمْسَسْها رجل، أم قيامته من قبره بعد موت ودفن مشهود؟! فكلا الحدثين في قمة الروعة والجلال! وتحيّرت في ما يمكن أن أجيب به، وما تجرّأت أن أعطي جوابًا قاطعًا في تميز واحد من الحدثين عن الآخر، فكل ما يتعلق بالمسيح يفيض بالعجب.
أما ميلاده فكان البوابة التي أطلّ الله من خلالها على أرضنا، فحلّ بيننا، وتجوّل في قرانا وشوارعنا، وشفى مرضانا، وأقام موتانا، ومسح من عيون الكثيرين دموع الأسى... وسار الدرب كله نحو صليب الفداء يسعى للوصول إليه، ليعتليه ويكفر عن خطايا البشرية، فتلك كانت المهمة المركزية التي جاء المسيح لأجلها... ولما حان الوقت وصل إلى مبتغاه فارتفع على عرش الصليب وسال دمه، فتمت بذلك عملية الفداء كما خطط لها وأنبأت عنها السماء من قبل...
ثم لكي يدرك العالم أن موته الكفاري حق، وأن صلبه حق خُطِّط له من السماء من قبل، قام المسيح من قبره في فجر الأحد متوَّجًا بالمجد والجلال، تاركًا خلفه قبرًا فارغًا شاهدًا للشعوب على صدق الرسالة التي جاء المسيح لأجلها، فلولا الميلاد ما كان صليبٌ، ولا كانت قيامةٌ... ولولا الصليب والقيامة ما كان الميلاد، وما كان المسيح ليأتي إلى أرضنا!
فالمهمة المركزية التي جاء المسيح لأجلها كانت الصليب... هو جاء ليُصلب، ونبوات التوراة عن الصليب سبقت ميلاده بمئات السنين، والحديث هناك جاء في غايةٍ من الوضوح، ولو أن النبوات عادة تأتي مغلّفة بشيء من الرمزية، تتفتّح معانيها للجادّين في التعرّف على الحقيقة، ولا تبدو كذلك للغافلين بإصرار على تجاوز الحقيقة.
قيامة المسيح من القبر جاءت مصادقة على صحة ما جاء المسيح لأجله وما نادى به... فمَن قَبِل هذه الحقيقة نال خيرًا، ومن لم يقبل نتمنّى أن يعيد النظر في الأمر، لأن هذه هي الحقيقة التي سيُحكم بها على كل شعوب الأرض في يوم الدين، ومهمتنا نحن كشهود للمسيح أن نعلنها للناس بعبارات صريحة واضحة، كي نعطيهم فرصةً لعلهم يخلصون.
قارئي الكريم، اعتاد البعض خطأً أن يسمّي عيد القيامة بعيد الفصح، وهذه تسمية مغلوطة، إذ أن كلمة "الفصح" هناك لا تشير للمناسبة التي نحتفل بها وهي قيامة المسيح، إنما تذكِّر بالفداء الذي تم بالصليب، والصلب سبق القيامة، ونحن نحتفل به في أسبوع الآلام الذي يسبق يوم أحد القيامة.
في الفصح ألمٌ وحزنٌ ودموع... بينما في القيامة فرحٌ وبهجةٌ وسرور مصحوبة بنشوة النصر لأن المسيح الذي صار فصحنا لم يقو القبر أن يحجزه في ظلمة جدرانه، فالمسيح وبسلطان ذاتيٍّ انطلق منه حيًّا، وقام غالبًا الموت كاسرًا شوكته. في هذا يقول الشاعر المسيحي:
لست يا قبر بشيءٍ منك لا نخشى وعيدا
إنما يسوع حيٌّ فعلينا لن تسودا
في الفصح تمّت عملية الفداء ولا تتحدث عن القيامة، أما في عيد القيامة فنحن نستذكر ما حققه المسيح بفوزه على أكبر عدو يواجه البشرية، حين داس الموت في عقر داره وقام غالبًا ساحقًا شوكته، هنا يقول الوحي متحدِّيًا: أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتكِ يا هاوية؟!
من يطلع على الأصحاحات الأولى من سفر أعمال الرسل في العهد الجديد يلاحظ أن حدث قيامة المسيح من القبر قد تصدَّر رسالة الكنيسة الأولى من بداية نشأتها فكانت تنادي به باعتزاز. فالمناداة بالقيامة دعمت صدق رسالة الخلاص التي كانوا ينادون بها بين الشعوب.
كما درجت رسائل بولس الرسول على التحدث عن القيامة باهتمام، فبشرى القيامة صارت كالمشعل المضيء بأيدي رسل المسيح أينما ذهبوا في جولاتهم التبشيرية بين الشعوب.
ويبقى السؤال: من أين جاء مصطلح كلمة "الفصح"؟
هذه كلمة عبرية معناها "العبور". والكلمة كانت تشير إلى ما حصل قديمًا لموسى النبي وشعبه ليلة خروجهم من مصر وتحررهم من عبودية فرعون. ففي تلك الليلة مرّ ملاك الموت على كل أرض مصر وطاف فوق بيوت المصريين فقتل كل بكر في كل بيت، فكانت هناك مناحة عظيمة في كل أرض مصر!
وفي مرور الملاك المهلك فوق بيوت شعب موسى "عَبَرَ" عنهم ولم يؤذهم! ذلك لأنهم أطاعوا وعملوا ما أوصى به الرب على فم موسى النبي بأن يقوم كل بيت بذبح أضحية محدَّدة المعالم، ومن دمها يرش صاحب البيت على قائمتي مدخل البيت من الخارج وعلى العتبة العليا منه. فعندما مر الملاك المهلك ورأى الدم على أبوابهم عبر عنهم فنجوا. فقال الكتاب: "لما أرى الدم أعبر عنكم".
ونحن اليوم كأتباع للمسيح نؤمن أن المسيح المصلوب هو فصحنا! وأن دمه المرشوش على قلوبنا بالإيمان بعد توبة صادقة، يرفع عنا عذاب الدينونة، وينجينا من هلاك الأبدية في يوم الدين!
هذا هو الفصح بمفهومه الكتابي، ونحن بلا شك نؤمن به شاكرين، ولأجله نحتفل بأسبوع الآلام السابق ليوم القيامة.
أما اليوم، فنحن نحتفل بعيد قيامة المسيح من القبر... نحتفل بنصرته على شوكة الموت، وعلينا أن نعطي المناسبة حقها فنسميها باسمها الصريح. فالاسم الصريح للمناسبة فيه إعلان صريح لمن هم حولنا، أن المسيح قام! وأن قبره من دون قبور الدنيا قبرًا فارغًا مُشرَّع الأبواب، لا عظام فيه، ولا بقايا من جثمان، فنزيل القبر ليس هناك لكنه قام!
ما زلت أذكر يومًا في أيام طفولتي المبكرة حين دخلت بصحبة والديَّ إلى الكنيسة في يوم عيد القيامة واستمعت لأول مرة إلى ترنيمة شدّت انتباهي بلحنها الشرقي الجميل وكلماتها الواضحة التي لم يغيبها اللحن البديع، ورغم صغر سني إذ كنت حينها في نحو التاسعة من العمر، شعرت بالاعتزاز في الانتماء لمسيح غلب الموت وقام!
تقول الترنيمة:
المسيح قام من بين الأموات
وداس الموت بالموت
ووهب الحياة للذين في القبور
فكان راعي الكنيسة يردد الكلمات بملء الفم بلحن جميل وصوت جهوري، ثم يرد عليه شعب المصلين بنفس الكلمات وذات اللحن:
المسيح قام من بين الأموات... وداس الموت بالموت... ووهب الحياة للذين في القبور
ويتكرر المشهد مرة ومرات، وأحسب أن الجميع مثلي كانوا يشعرون بنشوة الفرح والبهجة لأننا من أتباع سيد غزا القبر الموحش وداسه وكسر شوكته.
وبعد أن تنتهي فترة الصلاة، يخرج المصلون ويصافحون بعضهم البعض مهنئين بالعيد. فيقول الواحد للآخر: المسيح قام! ويرد الآخر: حقًا قام!