شباط February 2005
فركت سوزان عينيها بيدها ثم هتفت بكل قوتها من أعماق قلبها:
ترى هل أنا في حلم جميل أم أنه قد تحقق المستحيل؟
كان ذلك في شهر أغسطس سنة 1991، أسعد الأشهر على وجه الإطلاق في حياة سوزان، وحيدة والديها التي نشأت في أرقى العائلات في إحدى محافظات صعيد مصر، وبالتحديد كان هناك يومان في حياة سوزان لن تنساهما على مر الزمان:
الأول يوم أن ظهرت نتيجة الثانوية العامة فحصلت على مجموع 93.2 %.
والثاني يوم ظهور نتيجة التنسيق واستلامها البطاقة مكتوباً عليها اسمها ومعه اسم كلية الصيدلة حلم حياتها الأول.
ولكن كان عصر ومساء هذا اليوم أكثر إثارة من مجرد قبولها في كلية الصيدلة، فلقد استيقظت الساعة الخامسة بعد الظهر على صوت أقدام وقفت بجوار سريرها ثم شعرت بيد تمتد تحت الوسادة التي تنام عليها. وعندما فتحت عينيها، وجدت أباها يبتسم ابتسامه فهمت معناها سريعا، فوضعت يدها تحت الوسادة لتجد مفتاحا بسلسلة.. وعندما رفعته أمام عينيها قال لها أبوها:
إنها عربة "فيات 128" جديدة لك يا أعظم دكتورة تتناسب مع بنتي "الأمّورة" لتذهب بها للجامعة...
قفزت سوزان من على السرير وقبّلت والدها وفي لحظات كانت تقف تحت العمارة لتتأمل في عربتها الحمراء الجديدة وهي تتلألأ في بهاء كعروس تنتظر مجيء عريسها.
ورجعت سوزان من النادي في المساء.. وبعد العشاء دخلت غرفتها فكاد أن يتوقف قلبها من شدة الفرح، فها هو أمل حياتها السعيد.. البيانو الجديد قد وُضع في حجرتها ولمحت فوقه كارت مكتوب عليه:
هدية حبّية لأجمل صيدلانية.
التوقيع: ماما
وبعد أن قبّلت أمها وشكرتها، جلست سوزان لتعزف أبهج الألحان.. فلقد ابتسم لها الزمان.. وبكل هيام عزفت الأنغام التي تغني بدون كلام عن كل الأحلام التي عاشتها طوال الأيام.
لم يمضِ على ذلك إلا أربعة أشهر فقط، ففي شهر ديسمبر سنة 1991 بدا الإعياء والإرهاق الشديدان على وجه سوزان، وظن الجميع في البداية أنه نتيجة طبيعية لمجهود الدراسة في الكلية، إلى أن عاينها أشهر الأطباء من أساتذة الجامعة. ولن تنسى سوزان يوم أن وقفت بجسد تعبان وذهن حيران تستمع من خلف الجدران عن إصابتها بالسرطان، نعم، "سرطان الدم" كلمة كانت كالسهم طعنتها بسيف الأحزان فيما داخل الكيان.
مرة أخرى كانت سوزان تجلس - ونفسها دخلت إلى الحديد - لتلعب على البيانو الجديد، ولكن هذه المرة كانت بنفسها المُرّة، فلم تعزف سوزان ألحان القلب الفرحان كما كان منذ شهور من الزمان، لكنها عزفت ألحان الأشجان، وكانت كأنها تناجي هذا السرطان..
أيها السرطان.. يا منبع الأحزان.. ألم تتعلم شيئا عن الحنان.. ألا تعرف أن تفرّق بين إنسان وإنسان، بين فقير وسلطان، بين شيوخ وشبان، أو بين إنسان فرحان وآخر يغرق في الأحزان.. ولا حتى بين البنات والفتيان.. فيا لك من سرطان غبي وجبان.
تلاشت كل وعود الأب من صرف ملايين الجنيهات على سوزان لتغيير الدم في مستشفيات أوروبا، فلقد ساءت الحالة سريعاً، وفي ثلاثة أيام كانت سوزان تنام وقد فقدت الوعي بالتمام.
ولكن فجأة استيقظت سوزان من الغيبوبة، وكان الأب يمسك بيدها اليمنى والأم بيدها اليسرى. وعندما نظرت إليهما أجهشت سوزان في بكاء رهيب، ثم تكلمت وقالت لهما:
بابا.. ماما.. أشعر أني سأغادر الأرض عن قريب، وأحاول أن أغفر لكما ولكن لا أستطيع..
نزلت هذه الكلمات كالصاعقة على والديها ولا سيما كلمة "أغفر لكما".
فقال لها الأب وهو يحاول أن يتمالك دموعه بلا جدوى:
تغفرين لنا يا بنتي.. تغفرين ماذا؟ على..
وعندها قاطعته سوزان قبل أن يكمل جملته:
بابا، ليس لأجل الصيدلة أو العربة، ولا النادي أو البيانو.. فأنا مديونة لكما بالشكر، لأنكما علمتماني كيف أعيش عيشة كريمة، ولكن يا بابا لم تعلماني كيف أموت ميتة سعيدة. فها أنا أغادر الأرض والظلام يحيط بي، ولن يفيدني كل ما تعلمته عن الحياة السعيدة في لحظات موتي الرهيبة.. أنا خائفة ومرتعبة ولا أعلم ماذا سيصادفني بعد الموت.. ليتني ما تعلمت كيف أعيش في أحلام وأوهام، بل تعلمت كيف أموت في هدوء وسلام..
قالت هذه الكلمات سوزان، ثم رددت كلمات عن النيران والأحزان، عن الظلام والآلام، ثم رحلت بدون سلام.. في رعب إلى الأبدية لا نهاية فيها للسنين والأيام. وعندها صمت بيانو سوزان عن الألحان... فبعد أن عزف سيمفونية الأفراح ثم تلتها سيمفونية الأتراح والجراح.. صمت بدون أي همس أو صياح.. صمت في مساء بلا صباح.. لقد عرفت سوزان في حياتها السلّم الموسيقي. لكنها لم تعرف اللحن الحقيقي.. اهتمت بحياتها الأرضية ولكنها لم تعرف الحياة الأبدية.