حزيران (يونيو) 2005
كانت ضمن تخومها القاهرة، تقبع خلف جدار الصمت والإذعان.. تنظر إلى أصنامها بريبة، وإلى كهنتها بيأس حيث لم تجد عندهم من معين. لقد قررت خرق تلك التخوم متجاوزة قيودها وحواجزها المنيعة بكل تصميم ويقين، وخرجت عن صمتها الطويل فصرخت طالبة الرحمة والمعونة من القادر أن يرحم وأن يعين. لقد غلب إيمانها كل العقبات التي وقفت في وجهها وفازت بامتحانها المرير، فنالت ما سعت لأجله وحصلت على الثناء والتقدير من فم الإله القدير.
تلك الفينيقية السورية التي دُوِّنت قصتها في بشارة (متى 21:15-28) صارت مثالاً لكثيرين بعدها. لقد تعامل الرب معها بطريقة عجيبة، ووضع أمامها الصعوبات لا لكي يفشلها، بل لكي يزكّي إيمانها ويكشف عن مزاياه أمام تلاميذه وسامعيه. ونتأمل في قصة إيمانها من خلال أربع ثلاثيات.
أولاً: لقد تقدمت إلى المسيح في ثلاث خطوات
1- خروجها من تخومها المانعة
"وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم" (عدد 22). فيا له من خروج مبارك.. كثيرة هي التخوم التي تسيّج من حول الناس وتمنعهم من المجيء إلى الرب والحصول على خلاصه. وهي أيضاً كانت تقبع ضمن تخوم منيعة ولكنها خرجت بعزم لتتقابل مع نعمة المسيح.
أ- خرجت من تخوم المعتقدات والعبادات الباطلة
فالكنعانيون الفينيقيون كانوا في تلك الأيام وثنيين يعبدون آلهة صنمية كثيرة منها: ”إيل“ وزوجته ”أشيرة“ وهما أبوا جميع الآلهة، و”بعل“ إله المطر والرعد، وعشتاروت إلهة الحب، و”أدونيس“ إله الخصب، و”داجون“ إله القمح، و”أشمون“ إله الشفاء. ولكل من هؤلاء ربطٌ تربط التابعين له وتمنعهم من التوجُّه إلى الإله الحي.
ب- خرجت من تخوم الممارسات الدينية الفاسدة
كان لهؤلاء ممارسات موروثة كحرق أطفالهم للأصنام، والزنى، والسكر في معابدهم، وتلك الممارسات تصبح عوائد يصعب على الناس التخلص منها والخروج عليها. كما كان قادة الديانات الباطلة يعمدون إلى الوسائل ليمنعوا أتباعهم من التحرر من ربقتها.
ج- خرجت من تخوم التقاليد العائلية
وكثيراً ما تقف هذه التخوم حائلاً في سبيل الذين يريدون المجيء إلى المسيح، فتثور ثائرة الأهل والأقارب، وتبدأ الحرب الشعواء ضد من يحاول التعرف على كلمة الله وأتباع المسيح بالتوبة والإيمان.
2- جاءت تطلب الرحمة
"ارحمني يا سيد يا ابن داود". لم تأتِ ببرها الذاتي وقد تركت خلف ظهرها أساطير قدسية أصنامها. لم تدّعِ حفظها الوصايا ولا نقاوة القلب، ولكنها حملت دعوى واحدة هي طلب الرحمة. فكأنها تقول للرب إني خاطئة جداً ولست مستحقة لأية عطية منك، ولكني آتية إليك لأنك محب ورؤوف، طويل الروح وكثير الرحمة والحق. إني مستحقة نار جهنم لأنني عبدت الأصنام ومارست الأمور الشريرة، ولكني أطلب الرحمة.
وصرّحت بعلّة ابنتها بدون تحفّظ: "ابنتي مجنونة جداً".
كثيرون لا يصرِّحون بأمراضهم وضعفاتهم في الصلاة، خشية أن يعرفها الناس لعدم ثقتهم أن خلاص الرب هو خلاص كامل من الخطية ومن آثارها أيضاً.
3- جاءت تطلب المعونة
فحين تعرَّض إيمانها لضغوط شديدة بدأ يهتزّ. وكأني بها تنظر إلى ذلك الجدار من العوائق الذي انتصب أمامها، فتتخيّل نفسها مرفوضة من الإله الذي قصدته، وها هو صوت "أشمون" إله الشفاء ما زال يناديها. وهي ما زالت تذكر شكل ذلك الصنم الذي يقف جامداً لا قوة له على الحراك. ولكنها في موقف صعب.
ثانياً: وقفت أمامها ثلاث عقبات
1- صمت الرب
حينما صرخت إليه قائلة ”ارحمني“، "فلم يجبها بكلمة". كانت تلك الدقائق التي صمت فيها المسيح في وجهها دهراً بالنسبة إليها. وبدأت الظنون تتسرّب إلى أفكارها.. لماذا لم يقبل منها طلب الرحمة؟ ألعلها أساءت التعبير أمامه أم قصّرت في شيء ما، أم أن هناك سبباً آخر؟ كثيراً ما يحاول الشيطان أن يشككنا في رحمة الرب واستجابته لطلب المغفرة. لقد كان صمت الرب مبرمجاً وفق طاقة إيمانها على الثبات وقدرة إرادتها على الاستمرار.
2- موقف التلاميذ
"فتقدم تلاميذه قائلين أصرفها لأنها تصيح وراءنا“. ومع الأسف الشديد ما زال الكثيرون في الكنائس المسيحية اليوم يدّعون أن الناس يصيحون وراءهم. وهم لأنانيتهم وعدم غيرتهم لا يفسحون لهم المجال للتقدم إلى يسوع بل يقودونهم نحو ذواتهم. لقد عرف له المجد أن هذا الموقف قد أزعجها ولكنه عرف أيضاً أنه لم يزعزع إيمانها.
3- جواب الرب لها في البداية
لقد كان ذلك من أصعب الصعاب على إيمانها الغني [قد يصعب علينا نحن الآن رغم عصرنا المتقدم أن ندرك قصد الرب من كلامه معها، فكيف بتلك المرأة الوثنية في عصرها المتخلِّف؟]
وأظن أن العبرة من كلماته له المجد لم تكن فقط مقصودة إليها بل إلى تلاميذه وسامعيه من اليهود، وذلك لكي يلقِّنهم درساً عملياً لا يُنسى، بأنه ”يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون". لقد كان التلاميذ حتى وقت متأخر من رفقتهم ليسوع يظنون أنه جاء لأجل ”بني إسرائيل حسب الجسد"، لذلك قال لها على مسامعهم: "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (عدد 24).
لم تصدّها العبارة السابقة لأن إيمانها كان قوياً فجاءت وسجدت له سجود العبادة قائلة: ”أعني“. ربما استمر التلاميذ ينظرون إليها شذراً حاسبين أن ليس لها نصيب في الخلاص كونها من الأمم، ”الكلاب“ في نظر اليهود. لذلك أَتْبَعَ يسوع كلامه بالقول: "ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب"، وذلك لكي ينتزع الفكرة كلياً من أذهان هؤلاء التلاميذ. عالماً من جهتها أن إيمانها سيصمد أيضاً لهذه الصاعقة المخيفة.
ثالثاً: تعرّضت لثلاثة اختبارات
1- اختبار ثقة الإيمان ومقرّه القلب
فقلب المؤمن الحقيقي يظل ثابتاً في الرب، لا تزعزعه الصعوبات ولا تضعفه التجارب، لأن الإيمان الحقيقي يرفع المؤمن فوق الظروف.
2- اختبار التواضع ومقرة النفس
فتلك المرأة حينما قال لها المسيح: ”ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب“ لم يثِرْ في نفسها نازع الكبرياء، بل تواضعت ولم تعتبر هذه العبارة جرحاً لنفسها وإهانة لكرامتها، لأنها كانت تحمل نفساً صافية وقلباً محباً للرب.
3- اختبار التصميم ومقره الإرادة
يدهشنا إيمان تلك المرأة ويدهشنا أيضاً تصميمها. كثيرون يعثرون بكلمة أو حتى بإشارة ويرجعون من وراء الرب، لأنهم لا يملكون الإرادة القوية والتصميم الثابت. وقد وصفهم له المجد في مثل الزارع بالمزروع على الأماكن المحجرة، وهو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح، ولكن ليس له أصل في ذاته، بل إلى حين.
رابعاً: حصلت على ثلاث نتائج مباركة
1- شهد الرب بفمه المبارك لإيمانها "يا امرأة عظيم إيمانك"
وكم هي ثمينة هذه الشهادة؟! كم قيلت على أثرها مواعظ جعلت من إيمان تلك المرأة مثالاً يُحتذى منذ أن تجسّد الرب حتى الآن، وسيبقى كذلك حتى يوم مجيئه ثانية!!
2- عظّم مكانتها إذ فوّض الأمور لإرادتها "ليكن لك ما تريدين"
في يوحنا 7:15 نقرأ هذه العبارة التي قالها الرب لتلاميذه "إن ثبتُّم فيّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم". لقد وضع أمام تلاميذه كلمة شرط لكي يحصلوا على ما يريدون بالصلاة، ولكنه منح هذه المؤمنة كل ما تريد بدون قيد أو شرط.. فأية رفعة أعطاها الرب بعد تواضعها؟!!
3- شفاء ابنتها شفاءً فورياً كاملاً "فشفيت ابنتها من تلك الساعة"
قارئي الكريم، نحن في هذه الأيام بحاجة إلى إيمان كإيمان تلك المرأة لكي نستطيع اجتياز الامتحانات الصعبة، والثبات مع الرب، ولكي نستطيع أن نحصل على البركات الجزيلة. إن إلهنا غني، وإن كان هنالك من قصور فإنه فينا نحن البشر وليس في الرب الذي لا يعسر عليه أمر.