حزيران (يونيو) 2005
"ويتكل عليك العارفون اسمك لأنك لم تترك طالبيك يا رب" (مزمور 10:9)
نحن نثق في الله.. نثق فيه بلا قيود أو حدود.. ولا تستطيع قوة في الوجود أن تسلبنا ثقتنا فيه. وسنظل نثق فيه.. سنثق فيه في أقسى الظروف.. وفي أحلك الليالي.. وفي أصعب الاحتمالات.
وحين نثق في إلهنا، فإننا لا نتفضل عليه بهذه الثقة.. ذلك لأن وجوده اليقيني في حياتنا، وقدرته المعجزية الخلاّقة في أحرج أوقاتنا. ونور رضاه المتفجر في أحلك ظلماتنا.. كل هذه معاً هي التي أرست قواعد هذه الثقة الخالدة في أعماقنا.
وإذا كنا نثق في إلهنا بهذه الكيفية فذلك لأننا عرفناه. أنت لا تثق في شخص لا تعرفه. ولا تتكل على إنسان لا تربطك به علاقة.. وحياتنا اليومية العادية تؤكد هذه الحقيقة.. فالركاب الذين يركبون سيارة الأتوبيس ما كانوا يفعلون هذا لو لم تكن لهم ثقة في أن السائق الذي يقودهم متمرس على هذا العمل. والمريض الذي يستلقي في سكينة على مشرحة الجرّاح، ما كان يفعل هذا لو لم يثق في قدرته كطبيب. وتلك الأسرة الآمنة، ما كانت لتنام في قلب الظلام بغير اتكال على يقظة رجال الأمن.
ومع هذا، فكم وثقنا في أشخاص وفي أشياء لم تكن أهلاً لهذه الثقة.. أما إلهنا الكريم.. العظيم.. فإن معرفتنا بقدراته اللانهائية، وإمكانياته غير المحدودة أوثق وأصدق من كل ثقة في الوجود.
ومعرفتنا بإلهنا في حقيقة الأمر لم تنشأ من فراغ. بل هي حصيلة اختبارات متعاقبة تدرّجت بنا عبر الأيام.. فقد عرفناه عن طريق السمع.. وعرفناه عن طريق الرؤية.. وعرفناه عن طريق الاختبار.
عرفناه عن طريق السمع:
"سمعنا فذابت قلوبنا"، هكذا قالت راحاب: "لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق، وعلى الأرض من تحت" (يشوع 11:2) ونحن قد سمعنا.. سمعنا من الآباء والأجداد.. وسمعنا من التاريخ والأيام.. سمعنا من الشعوب والأقوام.. سمعنا وآمنا وصدقنا ووثقنا.
وعرفناه عن طريق الرؤية
على أن معرفتنا به لا تقوم بالسمع فقط، بل تتجاوزه إلى الرؤية. والرؤية أعظم من السمع، لقد تدرج اختبار أيوب بين الاثنين حين قال: "بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني".
فلكم رأيناه في الظروف.. مرّها وحلوها، خيرها وشرها.. رأيناه في عنفوان الصحة ورأيناه في سرير المرض.. رأيناه في النهار الساطع ورأيناه أكثر في الليلة الظلماء.. رأيناه في القصر ورأيناه في المغارة.. رأيناه في سجن فيلبي ورأيناه في عرس قانا الجليل.. رأيناه فوق جبل التجربة ورأيناه على جبل التجلي.
أجل، رأيناه في السجن، وفي الأتون، وفي جزيرة بطمس، وعند بحيرة طبرية، وتحت الرتمة، وفي علية يوم الخمسين. بل رأيناه في الطبيعة والفلك، أبصرناه في الشمس المشرقة وفي السحابة العابرة، في الورود المتفتحة والأشواك الجارحة، في النسمة الرقيقة والعاصفة الجامحة.. ورأيناه في الأشجار، والأزهار والأطيار، في البحار، والأنهار والأثمار.
وفي هذه جميعها على تنوعها أبصرنا عينه الجبارة التي سهرت علينا، وقلبه الكبيرة الذي احتضننا، ويمينه المقتدرة التي أنقذتنا، ومواعيده الكريمة التي ظللتنا. رأيناه وهو يحوِّل التجربة القاسية لما فيه خيرنا، ويسخّر الظروف الصعبة لخدمتنا. أجل.. رأيناه وشكرنا، بل سجدنا وخشعنا!
على أن أعظم تلك الرؤى جميعاً هي يوم رأيناه في الصليب.. هناك أبصرنا قلبه الكبير يتفجّر حباً وحناناً، وفضله الكثير يفيض إحساناً وغفراناً.
نعم رأيناه.. وعرفناه.. فكان أن اختبرناه كما لم نختبر شخصاً من قبل ومن بعد، فوجدناه إلهاً قادراً وأميناً.
ففي الناس من تصحّ ثقتنا في أمانتهم لكنها تخيب في مقدرتهم.. وفي الناس من تصحّ ثقتنا في مقدرتهم لكنها تخيب في أمانتهم.. أما ذلك الإله العجيب فإنه أمين وقادر.
إنه "يهوه"، "أهيه الذي أهيه"، الإله غير المتغيّر.. إنه "الرب"، أي السيد صاحب السلطان والصولجان.. بل إنه "يسوع" المخلص العجيب والمنقذ القريب، "وعمانوئيل الذي تفسيره الله معنا"!
فهل يبدو غريباً أننا نثق فيه، بل إن كل الغرابة هي أن تتحوّل ثقتنا عنه، وتتّجه عيوننا إلى سواه.
وما من شك في أن هذه الثقة المطلقة في إلهنا العظيم كان لها أعظم النتائج في حياتنا واختباراتنا. تأمل كاتب المزمور التاسع وهو يلهج بهذه النتائج المجيدة فيؤكد لنا أنها:
1- تملأ قلوبنا شكراً وحمداً لإلهنا. "أحمد الربّ بكل قلبي" (مزمور 1:9).
2- تفتح أفواهنا بالشهادة لشخصه "أحدّث بجميع عجائبك" (مزمور 1:9).
3- وتغمر قلوبنا بالفرحة والبهجة "أفرح وأبتهج بك، "أرنم لاسمك أيها العلي" (مزمور 2:9).
4- ثم تسكّن نفوسنا بالطمأنينة والأمان، حيث نرى من خلالها "الرب ملجأ للمنسحق. ملجأ في أزمنة الضيق" (مزمور 9:9).
أيها القارئ العزيز، هذه هي ثقتنا في إلهنا ولا يمكن أن نطرح هذه الثقة التي لها مجازاة (عبرانيين 35:10).