حزيران (يونيو) 2005
مرَّت الأيامُ والشهور، وتلتْها الأعوامُ ومن ثمَّ العقود، وعُدنا لنلتقي على أرض الغربة بعيداً عن الوطن الأم. هو الآتي من كندا مصطحباً زوجته المحبوبة ”رابيكا“، ونحن أنا وزوجي في لوس أنجلوس. لم يتغيَّر منظرُه علينا بعد هذه السنين العديدة، لكنَّه بَدا أكثرَ نُضجاً. فالشعرُ الأشيبُ الذي عَلا رأسَهُ زاده هيبةً ووقاراً وتذكَّرْتُ عندها والدَه القس الراحل الطيبِ الذِّكر إبراهيم عويس. ورحنا نتحدَّثُ بشغفٍ وكأنَّ السويعاتِ التي سنقضيها معاً لن تكون كافية أو وافية. وبدأ كلٌّ منا يسأل الآخر عن أخباره محاولاً معرفة التفاصيل المثيرة. وقضينا وقتاً ممتعاً تخلَّلتْهُ الأحاديثُ والنِّكاتُ والضَّحكاتُ واختباراتُ الحياة المضحكة والمبكية. وأحسْسنا كلانا أنَّنا عُدنا للاتصالِ من جديد بعد انقطاعٍ دام طويلاً.
ولمّا سألناهُ وزوجتَه ”رابيكا“ عن اختبارهما مع الرب - الذي سمعنا عنه الكثير - لم يتردَّدْ في سردِه علينا بكلِّ حماس ورغبة بحضور خالي وزوجتِه اللَّذَين سُرّا أيضاً برؤيتهما. قال جون: كما تعرفون، فلقد وُلدتُ في عائلةٍ مسيحيةٍ حقيقية في دمشق سوريا. وكان والدي راعي كنيسة الاتحاد المسيحي [كنيسة يسوع نور العالم اليوم]. وترعرعتُ ونشأت في كنَفِ الإيمان المسيحي الحقيقي. وعلى مقاعد تلك الكنيسة تعلَّمت الكثير. وكنت أُسرُّ عندما يصلي الآخرون، ويطلبون الرب ويتوبون عن خطاياهم. لكنَّ هذا السرور كان سائداً لطالما أنَّ التوبة والرجوع إلى الرب كانا محصورَيْن بالآخرين، ولا يمسَّاني أنا شخصياً لأنني أصبحتُ متمرِّداً في داخلي، وعاصياً بالرغم من كل ما نشأتُ عليه. بل كنت أحسُّ بالمللِ الكبير بسبب رتابةِ الحياة اليومية التي عشتُها في البيت. وكان من المحظور علينا أن نتكلم عن فلان أو فلان، بمعنى أنَّ النميمة لم يكن لها مكانة في منزلنا البتة. وكان السلام، والإلفة، والمحبة، والهدوء تسود بيتنا في كلِّ آن. وأذكر أنني مُنعتُ يوماً حتى من توجيه أيِّ مدحٍ أو إبداءِ إعجابٍ بفتاة جميلة. وبالطبع، لأنَّ والدي كان قساً راعياً للكنيسة، كنت حريصاً جداً على عدم ارتكاب أيِّ خطأ بشكل مفضوح، فكنت أُخفي الكثير من أموري حتى لا أسيءَ إلى سُمعةِ والدي واسمِه.
انتهيتُ من الدراسة وتخرَّجت من الجامعة في دمشق وأصبحت طبيب أسنان. ومن ثمَّ توجَّهتُ إلى إحدى الدول العربية حيث مارست مهنتي هناك لسنواتٍ كثيرة. وحصلت على المال الوفير فسافرت إلى بلاد عديدة وتمتَّعت بكل ما لديَّ من مال وجاه ومركز. إلا أنَّني لم أكن سعيداً في داخلي. وفي أحد الأيام وبينما كنت في ساحة بيكاديللي في وسط لندن، رأيتُ رجلاً يعظُ على الناس ويبشِّرهم بيسوع المسيح المخلص. فما كان مني إلا أن وضعتُ يديَّ على أذنيَّ حتى لا أسمع كلمة الوعظ. ولكن على الرغم من تمرُّدي وعصياني الشديدين، كان الله دائماً ينقذني وبشكلٍ عجيب من حوادثَ تعرَّضتُ لها وكِدتُ أن ألقى فيها حتفي. وأذكر واحدةً منها لأنَّها كانت مفزعة ومرعبة. إذ بينما كنتُ مسافراً مرةً ليلاً بسيارتي من الأردن إلى الدولة التي كنتُ أعمل فيها، ولأنني لم أستطع أن أرى جيداً الرقم الذي يُبلغني عن مقدار المسافة المتبقية لي لكي أصل إلى مكان إقامتي، والمكتوب على اللوحة، شردتُ عن طريقي وأنا أحاول أن أقرأ هل هي 99 كيلومترا أم 199 وإذا بي أجدُ نفسي أمام نورَيْنِ قويَّين يَظهران فجأةً ويتقدَّمان من نحوي بسرعة البرق. فعلِمتُ للحال أننَّي قد أصبحتُ في الاتجاهِ المعاكس وما النوران الَّلذان رأيتُهما إلا ضوءا شاحنةٍ كبيرة كانت تسيرُ بسرعة قصوى وهي متجهة نحوي. فصرخت للتوِّ من الفزع وغيَّرت للحال اتجاهَ سيارتي من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين حتى صرتُ في الاتجاه الصحيح للطريق. حدث كلُّ هذا بسرعةٍ متناهية وكأنَّ يداً نشلَتْني وأنقذَتني بأعجوبة. وعلِمتُ عندها أنَّ الرب وحده هو الذي نجَّاني. إذ كانت أمي الفاضلة تصلّي من أجلي دائماً. لكنْ، وعلى الرغم من كل ذلك فلم أرْعَوِ، ومضيتُ سائراً في طريقي غيرَ آبهٍ بمعاملات الله معي.
وبعد ذلك تعرّفتُ على فتاة برازيلية ابنة أحد أشهر المدرِّبين في لعب كرةِ القدم الذي كان يعمل آنذاك في تدريب فريق الدولة التي أقمت فيها. هذه الفتاة الجميلة والذكية أتت إلى عيادتي يوماً من أجل المعاينة. فأحسستُ بميل قوي تجاهَها وسادني شعور داخلي بأنَّها هي الفتاةُ التي سأتزوجها مستقبلاً. وفعلاً هذا بالضبط ما حصل. فتزوَّجنا في ميامي فلوريدا، وتابعنا عيشَنا في الخليج. وأنجبنا البنات والبنين. إلا أنَّني لم أحسّ يوماً بالاكتفاء الداخلي. واكتشفت بعد مرور سنواتٍ على زواجنا أننَّا غيرُ منسجمَيْن البتة، وكلٌّ منا له فكره الخاص في شؤون البيت والأولاد والزواج. وأحسستُ عندها بفراغ داخلي يقضُّ عليَّ مضجعي، وبحاجتي الماسَّة إلى ما يملأ قلبي من الداخل ويروي ظمأ نفسيَ العطشى. عندها ركعت عند سريري يوماً وصلَّيت من كل قلبي وصرخت من كلِّ جوارحي قائلاً: يا إله أبي وإله أمي، أنقذني من فضلك. أنا معذَّب. وبكيتُ بحرقةِ قلب وسلَّمت حياتي للرب.
لكنَّ زوجتي ”رابيكا“ لم يرُقْ لها ما حصلَ معي فراحت تضايقني وتزعجني. وعلى الرغم من أنَّها تربَّت في عائلة كاثوليكية محافظة إلا أنها لم تكن تهتم البتة بأمور الدين. لكنها، في الأسابيع الأولى، بدأت ترافقني لحضور اجتماعات لدراسة الكتاب المقدس معلنةً أنَّ دراسةَ الكتاب المقدس ما هو إلا درس تاريخ، لذلك فليس فيه من ضرر. لكنّني تصادمتُ معها حين أردتُ أن أطبِّق بشكل كامل تعليم الكتاب المقدس في بيتي. وكنت أشتاق إلى المزيد لأنَّ يسوع المسيح مخلصي قد صار هدفي في الحياة. ولما أردتُ أن أضعَ الكتاب المقدس على الطاولة في غرفة الجلوس جاءت ”رابيكا“ بكتابها الخاص بالحركة النسائية (Feminist Movement) ووضعتْهُ إلى جانب الكتاب المقدس. وبدأ الصراعُ بيننا...
وهنا ما كان من ”رابيكا“ إلاَّ أن استأذنَتْ زوجها جون لتقول: أحسستُ يومها أنَّني سأفقِدُ عقلي. فهل من المعقول أن أخسر زوجي الذي أحبُّه؟ ولكي لا أصل إلى مرحلةِ الجنون وضعتُ الكتاب المقدس الصغير في حقيبة يدي، وبدأتُ أقرأ منه على انفراد ودون أن يعلم أحد. وعندها بدأتْ كلمةُ الرب تمنحني سلاماً. وهنا تابع جون حديثه فقال: ولكن في أحد الأيام، وبينما كنت أقرأ في الكتاب المقدس أحسستُ أنَّه عليَّ أن أعترفَ لرابيكا بكلِّ الخطايا التي ارتكبتُها في الفترة التي فيها كنا قد قطعنا عهداً على أنفسنا أن نكون أوفياء لبعضنا البعض قبلَ زواجنا في فترة الخطوبة. فبدأتْ ”رابيكا“ تبكي كثيراً ولم تحتمل الصدمة. وطلبتْ ”رابيكا“ من أخي التوأم الحضور السريع عساه يحلُّ الأمر بيننا. ولمَّا أتى وجد ”رابيكا“ بحالةٍ يُرثى لها. فحكيتُ له كلَّ ما جرى، وشَرعتُ أنا أيضاً بالبكاء لأنني كنت نادماً على خطاياي الماضية. فما كان من أخي إلا أن انضمَّ هو الآخر إلينا كلينا في حفلةِ البكاء تلك. عندها قلت لرابيكا: عليَّ أن أعترف لكِ يا حبيبتي بكلِّ ما فعلتَهُ لأننَّي لا أريد أن تكون ولا حتى خطية واحدة ارتكبتها في الماضي عائقاً بيني وبين حصولي على غفران الله الكامل. وقرأنا معاً أنا ورابيكا من سفر إشعياء في الكتاب المقدس هذه الكلمات التي غسلتْ قلبَ كلينا في آن واحد: ”اطلبوا الرب ما دام يوجد. ادعوه وهو قريب. ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، ولْيَتُبْ إلى الرب فيرحمَهُ وإلى إلهنا لأنَّه يُكثر الغفران. لأن أفكاري ليست أفكاركم، ولا طرقكم طرقي يقول الرب. لأنه كما علتِ السمواتُ عن الأرض هكذا علَتْ طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم . لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجعان إلى هناك، بل يرويان الأرض ويجعلانها تلدُ وتنبتُ وتعطي زرعاً للزارع وخبزاً للآكل، هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي. لا ترجع إليَّ فارغة، بل تعمل ما سررت به وتنجح في ما أرسلتها له“.
وفعلاً، تابع جون قائلاً: جاءت هذه الكلمات لتغسل قلبينا من الداخل من كل خطيةٍ وعار وإثم. وطلبنا كلانا الرب يسوع المسيح بدموع وحلَّ الرب في قلبينا وبيتنا، فغيَّرنا وتمجَّد هو وحده في حياتنا معاً. والآن لدينا أربع بنات، واثنان من الصبيان وهم جميعاً بركة عظيمة من الرب علينا. نذهب جميعاً كعائلة واحدة إلى الكنيسة في كندا حيث نسكن ونتعلم من كلمة الله فننمو ونتقدَّم في حياتنا معاً. بالحق ما أمجد عملَ الرب. تقول رابيكا: لقد عظَّم الرب عملَهُ معنا فصرنا فرِحين.
جون ورابيكا إبراهيم عويس