أيار May 2005
فكيف إذن يؤمَّن الأساس للحصول على الغفران من غير التعريض ببر الله؟
كيف يتسنى لله البار أن يبرّر الخاطئ ومع ذلك يبقى هو نفسه باراً؟
لا يمكن لهذا الأمر أن يتم إلا إذا دُفع ثمن عقاب الخطية، ليس نظرياً أو بالكلام، بل بالحقيقة والواقع؛ وعقاب الخطية هو الموت، أي الموت الروحي، والموت الجسدي، والموت الأبدي.
الموت الروحي هو انفصال الإنسان عن الشركة مع الله، ويعني ذلك فقدان العلاقة الشخصية مع الله من حيث اختبار محبته وحضوره.
والموت الجسدي ليس فقط إنهاء وجودنا على الأرض، بل انفصال النفس والروح عن الجسد.
أما الموت الأبدي فهو انفصال الخاطئ الدائم، واللانهائي عن محضر الله. والموت الجسدي والأبدي كلاهما نتيجة الموت الروحي.
فكيف يمكن أن يُدفع ثمن عقاب الخطية؟ لا يمكن أن يُدفع هذا الثمن بأي عمل محدّد أو بأي عمل من أعمال الإنسان مثل الأعمال الصالحة، وممارسة الطقوس والشعائر، والصوم، والزكاة، والحج، وإماتة الجسد، إلخ... فالعقاب غير محدود لأن الإثم يرجع في أصله إلى التمرّد والتعدّي ضدّ الله القدوس غير المحدود. فليس في إمكان العمل المحدود أو العطاء المحدود تأمين الأساس للغفران واسترداد وضعنا السابق أمام الله؛ وأن يتحمّل أحدهم العقاب، معناه أن يحكم عليه بالهلاك طول الأبدية.
فكيف يمكن، إذن، أن يُدفع ثمن عقاب تترتب عليه عواقب غير محدودة؟
إن كان لعقاب الإثم أن يُرفع عن الإنسان، وإن كان لهذا العقاب عواقب غير محدودة، فليس من الممكن إذن، لأحد غير الله أن يتحمّل هذا العقاب. ووجوب تحمّل العقاب تتطلبه الحقيقة بأن الله كلي البر. وإرادته في رفع العقاب عن الإنسان تنبع من حقيقة كونه محبة، أي: إن الله شخصياً يهتمّ بنا بشكل حقيقي وصحيح.
لكن كيف يجوز أن يتحمّل الله عقاب الخطية الذي بعدل يقع علينا؟
إن جوهر رسالة الكتاب المقدس، هي أن الله، قد أتى تاريخياً إلى العالم في ابنه الذي هو (أزلاً) في حضنه، أقنوم من أقانيم الذات الإلهية، وأن محبة الله عظيمة لدرجة أنه رضي إدخال نفسه في قلب المأساة الإنسانية، وأن قدرته عظيمة، لدرجة أنه كان قادراً على إدخال نفسه فيها عن طريق تجسّد ابنه بولادته من عذراء مهيّأة من الروح القدس، كما سبق وتنبّأ النبي إشعياء في القرن الثامن قبل ولادة المسيح: "ولكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعياء 14:7) الذي تفسيره "الله معنا" (متى 23:2).
ولكن كيف يمكن أن يكون هذا؟ إن مفتاح الأمر موجود في طبيعة الوحدة التي بها تتميّز الطبيعة الإلهية. والطريقة الوحيدة التي بواسطتها نقدر أن نتعرّف على طبيعة الله هي الإعلان؛ إذ أن عملية التأمل أو التفكّر عند الإنسان عاجزة عن تحديدها. وإعلان الله في الكتاب المقدس يدل على أن وحدة جوهره الإلهي هي وحدة واحدة، غير أن هذه الوحدة تقوم في وحدانية جامعة. فعندما يقول الكتاب المقدس: "الرب إلهنا ربّ واحد" (تثنية 4:6) تشير الكلمة الأصلية "واحد" إلى وحدة جامعة.
والوحدانية الجامعة التي فيها تقوم وحدة الجوهر الإلهي تكمن في أنه، بينما يوجد إله واحد لا غير، إلا أن هذه الوحدة الواحدة تقوم في ثلاثة "أقانيم". فالكتاب المقدس يتكلم عن الله الحقيقي الواحد على أنه "الآب" و"الابن" و"الروح القدس" وليس هؤلاء مجرّد أسماء تُطلق على الله بالتناوب، بل إنهم أقانيم حقيقيون كل منهم مميّز، أزلاً، عن الآخرين داخل الجوهر الإلهي الوحدوي.
والآب والابن والروح القدس، وإن كان أحدهم يتميّز عن الآخرين، إلا أنهم واحد، متساوٍ في الجوهر والقداسة والجلال. وعندما يعمل الآب، فإنما الله هو الذي يعمل؛ وعندما يعمل الابن، فإنما الله هو الذي يعمل؛ وعندما يعمل الروح القدس، فإنما الله هو الذي يعمل. فثمة وحدة واحدة في الجوهر الإلهي الوحدوي القائم في الثالوث الأقدس كما أنه توجد وحدة واحدة في عمل أقانيم الثالوث الأقدس.
وكان في سبيل هذه الوحدة أن الله أحبّ العالم، بحيث شاء الظهور فيه في الجسد عن طريق ابنه، وحمل قصاص خطية العالم بنفسه. وعندما يتكلم الكتاب المقدس عن المسيح على أنه ابن الله، لا يعني بذلك أن الله أوجده من العدم، أو أن الله خلقه في زمن من الأزمان؛ ولا يعني طبعاً أن الله أنجب يسوع نتيجة تناسل جسدي (نستغفر الله لذكر الفكر السخيف). فقد دُعي ابن الله بسبب العلاقة التي له، أزلاً، بالآب والروح القدس في الجوهر الإلهي - ثلاثة أقانيم في الجوهر الواحد، وليس ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة آلهة. وعندما يعلن الله نفسه للإنسان، إنما يفعل ذلك عن طريق الابن، يسوع المسيح. ولنا تصريح الوحي الإلهي بهذا الصدد: "الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر" (يوحنا 18:1).
وقد تجلّت حقيقة شخصية الله في حياة يسوع المسيح، التي هي حياة المحبة، والحنان، والطهارة، والبرّ، والتنازل. لم يأتِ المسيح إلى العالم فقط بالهيئة الخارجية للإنسان، مع أنه لم يتخلّ عن جوهره الإلهي قطّ، بل أصبح إنساناً حقاً إذ وُلد في بيت بسيط متواضع وتعامل مع المساكين والمضطهدين. كان يهتمّ بالمظلومين والمرفوضين، وقد شفى المرضى، وأحيا الأطراف اليابسة.. فتح عيون العمي وآذان الصمّ.. أقام المقعدين وطهّر البرص.. عزّى المنسحقين بالروح.. أحيا الموتى.. وغفر الخطايا، مما أدهش الناس في أيامه وجعلهم يصرخون قائلين: "لم يتكلّم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان" (يوحنا 46:7)، أي بهذا السلطان وبهذه النعمة. وحتى أولئك الذين لم يقبلوا رسالته أقرّوا معترفين أن ليس فيه علة واحدة (يوحنا 4:19). ولم يكن فقط بلا إثمٍ وكاملاً في كل ناحية، بل أيضاً كان هو إعلان الله الحاسم والنهائي، إذ لم يكن من الممكن أن يكون بخلاف ذلك، لأنه هو ابن الله الذي هو، أزلاً، في حضن الآب (يوحنا 18:1).
لكن مع أن المسيح يسوع قد جاء إلى العالم ليُظهر الله للإنسان، فإن ذلك لم يكن السبب الوحيد لمجيئه. فقد قال أنه جاء "ليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (متى 28:20). وكان يتكلم، تكراراً عن موته على الصليب وعن قيامته من الأموات بعد ثلاثة أيام (متى 21:16). وعندما أخبر تلاميذه للمرة الأولى أنه سيُصلب، لم يقدروا أن يفهموا ذلك الأمر أو يقبلوه. فقد ظنوا أنه ليس من اللائق أن يموت على الصليب وهو "المسيح المنتظر" وابن الله الحيّ. أجاب يسوع بأن رفض فكرة موته ليس من الله بل من الشيطان (متى 16:16-23). وفي الواقع صرّح يسوع بأنه ينبغي له أن يموت صلباً ويقوم من الأموات من أجل الآخرين (يوحنا 24:12-33). ومع ذلك فقد أوضح أن موته سيكون عملاً اختيارياً، قَبـِلَه بمحض إرادته. قال إن أحداً لا يقدر أن يأخذ حياته منه، بل هو يضعها من ذاته، وله سلطان أن يضعها، وله سلطان أن يأخذها أيضاً (يوحنا 17:10-18)
إن موت المسيح على الصليب، قد ذُكر في العهد الجديد بصورة حية. فتركّز الاهتمام على آلامه، وموته، وقيامته، أكثر من أي أمر آخر في حياته الأرضية. وثمة أربع وثائق تاريخية هي بشائر متى ومرقس ولوقا ويوحنا، تشهد على صحة هذه الحوادث بكل حذافيرها. هذه روايات شهود عيان، وهي مجتمعة تفي بمطالب المبدأ القانوني الهام الوارد في رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس 1:13 "على فم شاهدَين أو ثلاثة تقوم كل كلمة". وقد أشير إلى موت المسيح وقيامته مئات المرات خلال أسفار العهد الجديد، وفي كتابات إنجيلية إضافية أيضاً. إن محور الإيمان المسيحي هو الإنجيل الذي تتلخّص بشارته السارة في أن المسيح مات من أجل خطايانا، وأنه دُفن وأنه قام في اليوم الثالث كما تنبأ بذلك العهد القديم (1كورنثوس 1:15).