تشرين الأول (أكتوبر) 2005
أحداث متلاحقة وصعبة، تتصارع فيها قوى متعددة في هذا العالم. وعائلة بيت عنيا تعيش وسط هذا التجاذب في وضع ضاغط وغير مستقر.
كان يسوع يحب مرثا ومريم ولعازر. ولكن المحيّر في الموضوع، أن لعازر المحبوب مرض. وتصل هذه العائلة، في معاملات المسيح معها إلى مواقف صعبة ومحيّرة. فنحن غالباً ما نستاء من الأمراض.. ومن الأوجاع.. ومن الآلام الجسدية. وتعلو التساؤلات: ما دام يسوع افتدانا، واهتم بأمر خلاصنا، وأمّن لنا حياة أبدية، فلماذا لا يمنع الأمراض من دخول أجسادنا؟ والذي داوى المشكلة الكبرى، هل يعجز أمام هذه المشكلة الصغيرة؟! ولا نلقى جواباً، ولذلك نحتار!
لقد شفى المسيح مرضى كثيرين، حتى إنّ الكتاب يقول أنه عندما ”أحضروا إليه جميع السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة.. شفاهم“ (متى 24:4). ولكن عندما أرسلت الأختان إلى يسوع قائلتين: ”الذي تحبه مريض“ (يوحنا 3:11)، ”مكث حينئذٍ في الموضع الذي كان فيه يومين“ (يوحنا 6:11).
ماذا يجري؟ لماذا لم يأتِ يسوع؟ لماذا لم يقل كلمة؟ لماذا يسمح بهذا الوضع المأساوي، والذي ينذر بحدوث مأساة أخرى وأعظم؟
مرثا ومريم في حيرة: كيف يجب أن نتصرّف؟ وماذا نفكّر أو نظن؟ هل يستخّف الرب بنا؟ ألا يشعر معنا؟ كان يجب أن يأتي، أو أن يفعل شيئاً ما!
نحن نظن، في معظم الأحيان، أن المعاملات بيننا وبين الرب هي معاملات ميكانيكية؛ مجرد ضغط أزرار. فمن عليه مشقات، يصلّي فينتهي كل شيء. وعندما تأتينا التجربة ونحن في وضع روحي سليم، وقد استوفينا الشروط اللازمة، نضغط على هذا الزر، وتكون النتيجة ممتازة.
نحن لسنا دُمىً، والرب ليس تحت تصرفنا. فالمعاملة بيننا وبين الرب أعمق من هذا المستوى وأسمى. إنها معاملات إدخالنا في الخطة الإلهية، حيث نستطيع أن نمجد الرب. ويُترك أمر التفاصيل للرب وليس لنا.
”الذي تحبه مريض“، ويأتي الجواب: ”هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله ليتمجد ابن الله به“ (يوحنا 4:11). متى؟ وأين؟ وكيف؟ لا نعرف، ولكن جلّ ما نحتاج إليه هو الانتظار. ”انتظاراً انتظرت الرب فمال إليّ..“ (مزمور 1:40). ولماذا لا يميل إلينا قبل الانتظار وقبل طول الانتظار؟
من الأهمية بمكان أن يكون بيننا وبين الرب تفاهم. أن لا نكون ”أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب“ (أفسس 17:5). نفهم إرادة الرب التفصيلية ونتجاوب مع هذه الإرادة، ونترك للرب وسائل التصرف.
إن خطة الله العامة هي أن يتمجد الرب في حياتنا. ولا أظن أن أحداً من أولاد الله يرفض هذه الخطة، ولكن المشكلة هي في طريقة التنفيذ. هنا نحتاج إلى الفهم، والصبر، والاستيعاب، والحكمة، والتسليم. والوصول إلى هذه الأمور ليس سهلاً.
أن تكون الكلمة الأخيرة للرب، هذا واقع لا نعيشه في غالب الأحيان. وهو مطلوب بنوع خاص من أولاد الله المسنّين في حياة الإيمان، الذين جازوا في اختبارات متعددة، والذين يعرفون كلمة الله، ولديهم فكرة واسعة عن طريقة معاملات الله معنا. ومع ذلك يسهى عن بالهم أن إلهنا غير محدود وله مع كل واحد منا معاملة خاصة. فليس واحدنا نسخةً عن الآخر، لكن كل واحد منا ”نسخة أصلية“.
يقول اختبار مريم ومرثا: المسيح يشفي المرضى؛ ولعازر مريض. المسيح قادر أن يشفي للحال، وبكلمة فقط. لكن هنا المرض يختلف، لأن لعازر يختلف، ولأن مريم تختلف، ولأن مرثا تختلف.
لقد حاول الرسول بطرس قديماً معرفة خدمة يوحنا المستقبلية. فعندما عرف البرنامج المختص به وهو أن يرعى خراف المسيح، والنهاية مِيْتة معيّنة يمُجد الله بها، يسأل السؤال: ”وهذا ما له“ (يوحنا 21:21)؟ ويجيبه يسوع: ”ماذا لك؟ اتبعني أنت“ (يوحنا 22:21)، لي معاملة خاصة معك، ومعاملة خاصة معه.
من الأهمية بمكان أن تكون لنا علاقة شخصية.. فردية.. وقوية بالرب.. تنمو معها مفاهيمنا الروحية.. ونأخذ إعلانات مباشرة من الرب.. فنكوّن تفاهماً شخصياً بيننا وبين الرب.. فلا نعود نقلّد الآخرين.. أو نحاول سرقة خدمة الآخرين.. فتبعد عنا روح الحسد والغيرة أو الشعور بالانتفاخ والكبرياء، وكأنّ مواهبنا أو خدماتنا تفوق ما للآخرين.
عندما يذكر الوحي أن إبراهيم سار مع الله، لا يقول عن لوط إنه سار أيضاً مع الله بل سار مع إبراهيم. وعندما جاء الغربال وفصل لوط عن إبراهيم، تبين أنه لم يسر كما يجب في طريق الإيمان، لأنه لم يتّبع طريق الدعوة. فعاش مغلوباً على أمره، من دون عزيمة للانتفاضة، ومن دون مواقف.
وبالعودة إلى معاملات الرب الفردية مع عائلة بيت عنيا؛ نجد الرب يسوع يمكث في الموضع الذي كان فيه يومين. إنه يُحسد على هذه الأعصاب الهادئة. فهو من الداخل يتألم، وكم تمنى أن يكون قريباً من مريم ومرثا. فهو الآن يشعر معهما، ويعرف توقعاتهما المؤلمة، ويعرف حيرتهما ودهشتهما؛ لكنه يتصرف بهدوء، فهو يعرف ماذا يجب أن يُعمل، ويعمله بهدوء.
من هنا يدرك معنى هذا الدعاء الذي دوّنه الكتاب: ”الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح“ (2تسالونيكي 5:3). إن كان المسيح يضطرب عند كل مرض، أو عند كل مشكلة أو مأساة، لأقعده هذا عن العمل والإنتاج.
نحن ننتظر بزوغ الفجر حتى نقوم بالمهمة، وغالباً ما نبكّر. لكن المسيح انتظر يومين. أيّ فكر ينتابنا مع الأختين؟ يدنا في النار ويده في الماء. نحن على أحرّ من الجمر وهو نائم. نحن نتسرّع.. والتسرّع ضد الإيمان.
ما كان أسهل على إبراهيم وسارة استبدال اسحق بإسماعيل. ويعرض إبراهيم على الله المقايضة: ”ليت إسماعيل يعيش أمامك“ (تكوين 18:17). والرب يرفض بالقول: ”بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه اسحق. وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً“ (تكوين 19:17). وكأنه يقول له: هنالك اتفاق بيني وبينك، هنالك تفاهم بل هنالك عهد: ”أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملاً. فأجعل عهدي بيني وبينك، وأكثـِّرك كثيراً جداً“ (تكوين 1:17-2)، كان عليك أن تنتظر أكثر من عشر سنوات. لكن إبراهيم تسرّع.
عندما يطلب منا الكتاب المقدس أن يكون لنا فكر المسيح، فإنّ هذا يسهّل علينا فهم طريقة المسيح في تعامله معنا. أرسلت الأختان إلى يسوع قائلتين: ”الذي تحبه مريض“. والرب أراد أن يُظهر بأن محبته ليست فقط وقت المرض، بل هو يستطيع إظهار هذه المحبة في أوقات أخرى وفي حالات أصعب من المرض؛ وما علينا إلاّ الانتظار.
كثيراً ما نتصرف كما تصرف قديماً نعمان السرياني فنملي على الرب أفكارنا وطرقنا. عندما أرسل إليه النبي أليشع يقول: ”اذهب واغتسل سبع مرات في الأردن فيرجع لحمك إليك وتطهر“ (2ملوك 10:5)، ”غضب نعمان ومضى“ (2ملوك 11:5). الغريب في الإنسان أنه وهو المحتاج إلى الرب، ليس مستعداً أن يطيع أوامر الرب. فأحياناً تكون لدينا دالّة كثيرة على الرب ونملي عليه ماذا يفعل. فقد رسم نعمان السرياني الخطة المؤلفة من أربعة بنود ووقّع عليها وأرسلها إلى رجل الله للتنفيذ. وهذه هي تفاصيل الخطة: ”هوذا قلتُ إنه
(1) يخرج إليَّ
(2) يقف
(3) يدعو باسم الرب إلهه
(4) ويردّد يده فوق الموضع فيشفي الأبرص“.
لا نأتي إلى الرب كقواد جيش بل كعبيد. العبد يرضى بإرادة سيده، ويطيعها. فالرب ليس تحت تصرفنا بل نحن تحت تصرفه. ليس ما نقوله نحن أو نفكر فيه هو المهم. فالرب ليس مُلزماً بماضينا، ولا بمركزنا، ولا باختباراتنا، ولا حتى بموقعنا في الكنيسة. ”الله لا يأخذ بوجه إنسان“ (غلاطية 6:2).
فلو أنّ الرب تعامل معنا بحسب أفكارنا وإرادتنا لكانت النتائج ضعيفة وضئيلة. لكن للرب مقاصد سامية تنسجم مع فكره وإرادته وبرنامجه الإلهي. فهو يتحدى آحاز قديماً بالقول: ”اطلب لنفسك آية من الرب إلهك. عمّق طلبك أو رفّعه إلى فوق“ (إشعياء 11:7). وغالباً ما نجيب كما أجاب آحاز: ”لا أطلب ولا أجرِّب الرب“ (إشعياء 12:7).
والرب يتدخل لكي ينزع شكوكنا وقلة إيماننا التي تجعلنا نتستر تحت ألف غطاء وغطاء، ليظهر لنا عظمته وقوته: ”والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر، بحسب القوة التي تعمل فينا“ (أفسس 20:3).
أيَّ فكر نطلب، فكرَنا أم فكرَ الرب؟ وأيَّ قول نفضّل، قولنا أم قول الرب؟ دعونا نصلّي مع المرنم قديماً: ”وحّد قلبي لخوف اسمك“ (مزمور 11:86).. وحّد فكري مع فكرك، وأعطني حكمة حتى أعرف مقاصدك وكيف تريد أن تتمجد فيَّ، وكيف تريد أن تستخدمني، وكيف تريد أن آتي بالنتائج الصالحة!