أيلول (سبتمبر) 2005
يحتفظ التاريخ بالكلمات الأخيرة لبعض الأشخاص ذوي الشهرة، لأن كلماتهم الأخيرة عادةً تعبر عما كان يشغلهم في حياتهم. والكتاب المقدس يحتفظ لنا بالكلمات الأخيرة لكل من موسى عبد الرب (تثنية 26:33-29)، ويشوع (يشوع 24)، وداود (2صموئيل 23)، واستفانوس (أعمال 56:7-60) وغيرهم.
موضوعنا في هذه المرة هو كلمات موسى الأخيرة لأنها تلخّص لنا أهمّ اختبار في حياته. لقد كانت حياة موسى حافلة بالأحداث المهمة، منذ ولادته إلى نهاية رحلته على هذه الأرض.
فعند ولادته كان فرعون قد أصدر أمراً بأن يُطرح كل صبي يولد لبني إسرائيل في النهر لكيلا يعيش. ولكن "بالإيمان موسى، بعدما وُلد، أخفاه أبواه ثلاثة أشهر، لأنهما رأيا الصبي جميلاً، ولم يخشيا أمر الملك" (عبرانيين 23:11). ولما لم يمكن لأمه أن تخبئه بعد ذلك "أخذت له سفطاً من البردي وطلته بالحمر والزفت، ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر" (خروج 3:2). ورتبت العناية الإلهية أن تنشله ابنة فرعون وتتخذه ابناً لها. وعاش موسى في قصر فرعون إلى أن بلغ به العمر أربعين سنة. "فتهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدراً في الأقوال والأعمال" (أعمال 22:7). "ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته بني إسرائيل. وإذ رأى واحداً مظلوماً حامى عنه، وأنصف المغلوب إذ قتل المصري" (أعمال 23:7-24). ولما عُرف الأمر عند فرعون هرب موسى إلى أرض مديان، وهناك تزوج وكان يرعى غنم حميه. وذات مرة ساق الغنم إلى وراء البرية وجاء إلى جبل الله حوريب. هناك ظهر له ملاك الرب في عليقة تتوقَّد بالنار من غير أن تحترق. وأعلن له الرب في ذلك الوقت خطته لإنقاذ الشعب من عبودية مصر، وكلفه بالذهاب إلى فرعون ليبلغه رسالة من الرب يقول له: "أطلق شعبي ليعبدني". وما أكثر ما دار بينه وبين فرعون من نقاش، فكلنا نعرف الضربات التي بها ضرب الرب مصر على يد موسى وهارون، لأنه مدوَّن لنا في سفر الخروج من الفصل الثالث إلى الثاني عشر الذي فيه ”بالإيمان صنع الفصح ورشّ الدم لئلا يمسهم الذي أهلك الأبكار" (عبرانيين 28:11). ثم بعد ذلك حادثة يتكرر ذكرها في الكتاب المقدس ويغنّى بها في المزامير، وهي عبور البحر الأحمر "الأمر الذي لما شرع فيه المصريون غرقوا". ثم قضوا أربعين سنة في البرية إلى أن وصلوا إلى حدود أرض كنعان... أربعين سنة محمّلة بالحوادث الخطيرة المهولة. كان الشعب فيها حملاً ثقيلاً على عاتقه، ولكنه فيها أيضاً رأى عناية الرب المعجزية، إذ حملهم على أجنحة النسور. والآن جاء الوقت الذي فيه لا بد أن يموت موسى قبل أن يدخلوا أرض كنعان. فبارك موسى رجل الله كلاً من الأسباط الاثني عشر. ولما انتهى من ذلك قال كلماته الأخيرة التي هي موضوعنا. يا ترى ماذا كانت كلماته الأخيرة؟ إنه لم يتكلم عن حياته في قصر فرعون، ولا عن مواجهاته الجريئة مع فرعون نفسه، ولم يتكلم عن قيادته الماهرة لشعب عنيد لمدة أربعين سنة في صحراء مخيفة فيها الجوع، والعطش، والأعداء، والحيّات المُحرقة، بل افتتح كلماته الأخيرة المدونة لنا في تثنية 26:33-29 بهذا الإعلان الصريح: "ليس مثل الله". نعم، ليس مثل الله. وكل مؤمن حقيقي عاش حياة الشركة مع الله لا بد أن يقول مع موسى عبد الرب ”ليس مثل الله“. أتعرف أيها القارئ العزيز أن كثيرين ممن ينكرون وجود الله هم يفضِّلون أن لا يكون هناك إله لأنهم يجهلون أنه "إله صالح وطيب وإلى الأبد رحمته". ولكن ماذا تقول أنت؟ إن كنت مؤمناً حقيقياً لا شك أنك ستقول "ليس مثل الله".
”ليس مثل الله“ في جلاله وعظمته؛ "وليس لعظمته استقصاء" (مزمور 3:145).
و”ليس مثل الله“ في حكمته ومعرفته؛ "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء!" (رومية 33:11).
”ليس مثل الله“ في قدرته فهو القادر على كل شيء؛ ”لأنه قال فكان. هو أمر فصار" (مزمور 9:33).
و”ليس مثل الله“ في صلاحه ورحمته؛ "لأن الرب صالح. إلى الأبد رحمته، وإلى دور فدور أمانته" (مزمور 5:100).
و”ليس مثل الله“ في محبته، فقد كنا نستحق الهلاك؛ "ولكن الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رومية 8:5). "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3).
وهناك الكثير الكثير الذي نتعلمه عن الله في كتابه المقدس، فننادي للناس قائلين: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب"
(مزمور 8:34).
والآن لنرجع لكلمات موسى الأخيرة: "ليس مثل الله يا يشورون". يشورون اسم إعزاز لشعب الرب قديماً. وإذا راجعنا المناسبات التي ذُكر فيها اسم يشورون، نتعلم حقيقتين: من الناحية الواحدة، إنه شعب متمرد "فسمن يشورون ورفس.. فرفض الإله الذي عمله" (تثنية 15:32). ولكن من الناحية الأخرى نرى أمانة الله وسبب إحسانه ليشورون، إذ يقول الرب في (إشعياء 2:44): "لا تخف... ويا يشورون الذي اخترته"، فكم بالأولى نقول نحن "ليس مثل الله" الذي اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم (أفسس 4:1).
كان موسى يحب الشعب رغم كل المتاعب التي سببوها له - وهذا واجب كل راعٍ أمين - وذلك لأنه كان يحب الرب. وأراد موسى أن يشجعهم إزاء الحروب التي كانوا سيواجهونها في أرض كنعان، فذكّرهم بعناية الرب بهم، وكيف كان الرب دائماً يسرع لمعونتهم، فقال: "يركب السماء في معونتك والغمام في عظمته". ثم قال: "الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت". فالرب هو الإله الأزلي وليس كآلهة الأمم، حديثة ومن اختراع البشر، وأذرعه الأبدية لا تكلّ ولا تعيا. فهي عناية من فوق ومن تحت، وهو أيضاً الذي "طرد من قدامك العدو وقال أهلك"، لأن الحرب للرب. هو الذي أباد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس (عبرانيين 14:2). لذلك "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا". هو الذي يقودنا في موكب نصرته، فنقول "شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح". إن كان موسى قد قال: "طوباك يا إسرائيل من مثلك يا شعباً منصوراً بالرب"، فكم نقول نحن؟ نقول مع الرسول بولس: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح" (أفسس 3:1).
حقاً طوبى لكل من ينتمي للرب، لأن الرب معه في كل الظروف، في حُلْوها ومرِّها، لأنه "إله أمانة لا جور فيه".
أيها القارئ العزيز، كل ما كُتِب في الكتاب المقدس هو لفائدتنا نحن ”الذين انتهت إلينا أواخر الدهور". لذلك يليق بنا أن نقرأ فيه كثيراً، فتكون عينك ”إلى أرض حنطة وخمر وسماؤك تقطر ندى“، أي بركات من فوق ومن أسفل.. على الأرض شبع روحي وسرور (ترمز اليهما الحنطة والخمر)، وبركات من السماء التي هي موطننا. أما من جهة الأعداء فهو ترسنا، وعوننا، وسيف حربنا والنتيجة هي الانتصار الكامل.
بعد هذه الكلمات المشجعة لهم ولنا صعد موسى إلى جبل نبو، "وقال له الرب هذه هي الأرض... قد أريتك إياها بعينيك ولكن إلى هناك لا تعبر... فمات هناك موسى حسب قول الرب" (تثنية 1:34-6). والآن السؤال لكل منا: ما هو اختبارك الشخصي؟ هل أدركت محبة هذا الإله العظيم الذي أرسل ابنه الوحيد إلى هذا العالم ليخلصك، ليس لأي سبب سوى أنه أحبك؟ ألا يجدر بكل منا أن يقول من القلب: "ليس مثل الله"؟ متى امتلأت قلوبنا بمحبته، فإن هذه المحبة ستطرد كل فكر باطل وكل شهوة رديئة. فنمتلئ بالفرح والهتاف لإلهنا "له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور، آمين" (أفسس 21:3).