أيلول (سبتمبر) 2005
في أي حوار ديني يجري بين أطراف متباينة ترد تعابير ومصطلحات لفظية قد تبدو مستغربة لدى هذا الطرف أو ذاك، وخصوصاً لمن يطّلع عليها للمرة الأولى أو لم يسمع لها تفسيراً يوضح معانيها.. في المسيحية كذلك مصطلحات يستغربها من لم يطّلع على مضامينها، ومنها على سبيل المثال ما يختص بالتجسّد، تجسّد الله في المسيح، ومنها ما يشير به الإنجيل إلى المسيح كابن الله.
فكلّنا، لأيِّ عقيدة ننتمي نستعمل مصطلحات دينية لا يستوعبها الطرف الآخر وقد تكون مثيرة للجدل، لكن أصحابها آمنوا بها، واعتادوا عليها، واستوعبوا ما ترمي إليه، فسَهُلت عليهم دون اعتراض. وكلنا نستعمل مصطلحات لفظية لو دققنا النظر في معناها الحرفي لذهلنا، ومع ذلك نواظب على استعمالها، ومن ذلك القول: " هذا إصبع الله"، أو "عين الله ترعاكم"، أو "يد الله مع الجماعة". ففي استعمال هذه المصطلحات، هل حقاً نحن نؤمن أن الله له أيدٍ، وأرجل، وعيون كما للإنسان؟ بالطبع لا. لكننا استوعبناها واعتدنا على ما ترمي إليه.
سنبحث في هذه الحلقة عن كيف يكون المسيح ابن الله. نشير بادئ بدء إلى أن بنُوَّة المسيح لله مصطلح تردّد أكثر من مرة على لسان الوحي، وذلك في أسفار التوراة السابقة للإنجيل بقرون عديدة، وهي حتماً تشير إلى المسيح. ففي المزمور الثاني المنسوب إلى داود النبي، يخاطب الوحي هناك ويحذّر ويندّد بالشعوب المتمردة على الله، يقول: "لماذا ارتجَّت الأمم وتفكّر الشعوب في الباطل؟ قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه، قائلين: لنقطع قيودهما، ولنطرح عنّا ربطهما. الساكن في السماوات يضحك. الرب يستهزئ بهم. حينئذٍ يتكلم عليهم بغضبه ويرجفهم بغيظه". ثم يقول: "فالآن أيها الملوك تعقَّلوا. تأدبوا يا قضاة الأرض. اعبدوا الرب بخوفٍ واهتفوا برعدة. قبِّلوا الابن لئلا يغضب فتبيدوا من الطريق. لأنه عن قليل يتَّقد غضبه. طوبى لجميع المتكلين عليه". والسؤال هنا: من هو هذا الابن الذي بيده هذا السلطان وله هذا الجلال والهيبة؟ فهذا فصلٌ من مزامير النبي داود، وهذا كتاب موحى به من الله. ويلاحَظ أن المزمور يتحدث عن شخص بذاته ويطلب أن نقدّم له الولاء وإلا فالرافضون يتحمّلون دينونة غضبه فيُبادون من الطريق.
ولمعرفة هوية هذا الذي يسميه المزمور بالابن، لنعد إلى سفر الرؤيا الإصحاح الأول والثاني حيث يظهر المسيح بعظمة جلاله. يتحدث يوحنا الرائي هناك عن رؤيا رآها، يقول فيها: "فالتفتُّ لأنظر الصوت الذي تكلّم معي. ولما التفتُّ رأيت... شبه ابن إنسان، متسربلاً بثوبٍ إلى الرجلين، ومتمنطقاً عند ثدييه بمنطقة من ذهب. وأما رأسه وشعره فأبيضان كالصّوف الأبيض كالثلج، وعيناه كلهيب نار. ورجلاه شبه النحاس النقي، كأنهما محميتان في أتون. وصوته كصوت مياه كثيرة. ومعه في يده... سيف ماض ذو حدين... ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها". ثم يقول: "فلما رأيته سقطت عند رجليه كميت، فوضع يده اليمنى عليَّ قائلاً لي: لا تخف. أنا هو الأول والآخر، والحيّ. وكنت ميتاً وها أنا حيّ إلى أبد الآبدين".
ويتكرّر هذا الوصف في الأصحاح الثاني من سفر الرؤيا إذ يقول هناك: "هذا يقوله ابن الله، الذي له عينان كلهيب نار، ورجلاه مثل النحاس النقي." وفي تعليقنا على هذا نقول إن الإشارة واضحة هناك عن المسيح، فهو ابن الإنسان كما ورد عنه في الأصحاح الأول من سفر الرؤيا، وهذا اسم أو لقب اختص به المسيح للدلالة على ناسوته وهو ابن الله كما أُشير إليه في الأصحاح الثاني. ثمَّ هو من كان ميتاً والآن حيّ. فهو مات على الصليب، وقام في اليوم الثالث من صلبه، والآن حيّ، وحيّ دائم إلى أبد الآبدين. ولأنه حيّ، نحن نصلي إليه، ونطلب منه، ويستجيب دعاءنا؛ وهذا ما نعتزّ به: أن قائدنا حيّ يسمعنا، قريب منا ولا وسيط بيننا وبينه. وهو من قال: "وها أنا معكم كلّ الأيام إلى انقضاء الدهر".
هذا هو المسيح ابن الله الذي سيظهر يوماً دياناً لشعوب الأرض التي تغافلت عنه. فأوصافه، وألقابه، وأسماؤه المتعدّدة، لم تُعطَ له من أتباعه، بل الوحي هو من أعطاه هذه الأوصاف والألقاب وهي من حقّه وتنطبق عليه.
بَقِيَ أن نشير إلى نبوة أخرى وردت عن المسيح في سفر دانيال الأصحاح السابع إذ يقول دانيال النبي هناك: "كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقرّبوه قدّامه. فأُعْطِيَ سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كلّ الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطانٌ أبديّ ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض". لديَّ هنا ثلاث ملاحظات سريعة:
أولاً: أُطلق على الموصوف هنا لقب ”ابن الإنسان“، وهذا ما اعتاد المسيح أن يطلقه على نفسه في مواقف متعددة للدلالة على ناسوته.
ثانياً: أُعطيَ لهذا الشخص أن ”تتعبّد له كلّ الشعوب والأمم والألسنة“، وسفر دانيال سفر من أسفار كتاب الله في التوراة ولا يجيز عبادة أحدٍ غير الله.
ثالثاً: أُعطي المُشار إليه بـ ”ابن الإنسان“، سلطاناً أبدياً لن يزول وملكوتاً لا ينقرض... فالسؤال هنا: على من تنطبق هذه الأوصاف إن لم تنطبق على المسيح، ثم هل يمكن أن تنطبق على غير الله؟!
هذا وقد وردَ ذكرٌ لابن الله في التوراة قبل ميلاد المسيح بمئات السنين. ففي سفر الأمثال أصحاح 30 جاء على لسان النبيّ قوله: "إني أبلد من كلّ إنسان... ولم أتعلّم الحكمة، ولم أعرف معرفة القدوس. من صعد إلى السموات ونزل؟ من جمع الريح في حفنتيه؟ من صرّ المياه في ثوب؟ من ثبّت جميع أطراف الأرض؟ ما اسمه وما اسم ابنه إن عرفت"؟ واضح أن حديث الوحي هنا يؤكد على عظمة الله وقدرته، ويقدِّم ذلك بشكل تساؤل، فالله من يجمع الريح في حفنتيه، وهو من يصرّ المياه في ثوبٍ، وهو من يثبِّت أطراف الأرض. ثم يتساءل: هل عرفته؟ هل عرفت اسمه؟ وإن عرفت، هل عرفت اسم ابنه؟
عبارات يقرأها المؤمن المسيحي وينحني أمام وضوح الكلمة مبتهجاً، فهو يعرف ما ترمي إليه. أما الغير، وبالأخص اليهودي صاحب التوراة، ومع أن الكلمات مكتوبة بوحي الله في توراته، لكنه يقف أمام هذا اللغز في حيرة ولا يفهم ما تعنيه! ذلك لأنها كُتِبَت لنا نحن الذين نعيش في أواخر الدهور لكي تمدّنا بالبرهان القاطع فتؤكد ما نؤمن به.
وهناك إشارة أخرى إلى المسيح كابن الله وردت في سفر دانيال الأصحاح الثالث. وتلك لها قصة طويلة لا مجال للخوض فيها بكلّ ما بها من تفاصيل لضيق الوقت إنما يمكن للقارئ الإطلاع عليها بنفسه في موضعها. والحدث هناك كان من ملك وثني عاش قبل ميلاد المسيح ببضعة مئاتٍ من السنين، وقد رأى المسيح في مشهدٍ فائق الروعة. وظهوره العجيب كان بين ثلاثة شباب مؤمنين حُكِمَ عليهم بالموت لأجل إيمانهم لأنهم رفضوا السجود للوثن، فرموهم بأمر ملكي في أتونِ نار مشتعلة، فقَتَلَ لهيب النار الرجال الذين كُلِّفوا بحملهم لطرحهم في الأتون. وبعد لحظات التفت الملك إلى الأتون ليرى ماذا حدث. فرأى أربعة رجال محلولين يتمشّون وسط اللهيب وما بهم ضرر. فصرخ في رجاله متسائلاً: "ألم نُلقِ ثلاثة رجال موثقين في وسط النار؟ فقالوا: صحيح أيها الملك فقال: ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون في وسط النار وما بهم ضرر، ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة".
نتوقف قليلاً عند هذا المشهد الذي يصوّره الوحي في سفر دانيال ونتأمل ملياً بالعبارة التي نطق بها الملك حين قال: "ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة". فنقول:
أولاً: كان لهيب النار مشتعلاً جداً حتى قتل الرجال الذين حملوا الشبان المحكوم عليهم ليرموهم في الأتون.
ثانياً: كان الشبان الثلاثة موثقين عندما رموهم في اللهيب، لكنهم بعد لحظات شوهدوا محلولين يتمشون وسط اللهيب وكأنهم في نزهة. لذلك تساءل الملك باندهاش: ماذا وراء هذا اللغز المحيّر؟
ثالثاً: كان عدد الشباب المحكوم عليهم ثلاثة، حُكم عليهم لأنهم رفضوا السجود للوثن، لكنهم وسط اللهيب صاروا أربعة فمن أين جاء الرابع؟ ومن هو؟ ما هي هويته؟ تساءل الملك: "ألم نلقِ ثلاثة رجال موثقين في وسط النار؟ ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون وسط النار وما بهم من ضرر، ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة".
رابعاً: كان الملك هنا بكامل وعيه، لكن ما شاهده أذهله ودفعه للتساؤل عمّا يجري أمامه؟! وفي ما رآه لاحظ أن الرابع بين الشبان الثلاثة عليه هالة من المجد غير العادي فوصفه بكلمات هي أقصى ما يمكن أن يعبِّر عنه رجل وثني في وصفه للرفيق الرابع المتسربل بالجلال والمجد فقال فيه بحسب مصطلحاته الوثنية: "ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة".
هذا الرابع هو المسيح الذي يدعوه الإنجيل بابن الله، وهذا الظهور هو واحد من ظهورات المسيح المتعددة في أيام التوراة ما قبل ميلاده بزمنٍ طويلٍ.
هل آمنت به؟ هل فتحت له قلبك ليدخل ويجلس على عرش قلبك؟
يقول الكتاب المقدس: "تعرّف به واسلمْ بذلك يأتيك خير".