أيلول (سبتمبر) 2005
الأدب، بصورة مجملة، هو فن التعبير عن الحياة. وتتّسع موضوعات الأديب التي ينتقيها باتساع الحياة بكل ما فيها من أحداث ومشكلات، وانتصارات وإخفاقات، وآلام وأفراح وغيرها من العوامل التي تشكل مادة الأدب التي يغترف منها الشاعر والقصّاص والأديب. والشيء عينه ينطبق على وجوه الفنون الأخرى من نحت ورسم وموسيقى، وغيرها من مواد التعبير عن مقوّمات حياتنا.
ولكن السؤال الكبير الذي يعترض المؤلفين المسيحيين هو: ما هي الحدود التي على الكاتب الأدبي المسيحي التزامها في انتقاء موضوعاته؟
إن الكُتّاب الذين يعنون بالأدب اللاديني لا يخضعون عادة للحدود التي تُفرض على الكاتب المسيحي لأن الأدب الديني، ولا سيما المسيحي، هو أدب التزامي بطبيعته، ولا يصح للكاتب المسيحي أن يخرج عن مقاييس هذا الالتزام.
ولكن إن كان الدين هو مصدر الأدب المسيحي، والدين من حيث المبدأ، يعني بجميع القضايا الاجتماعية، والأخلاقية، والأدبية، والسياسية، وحتى الفلسفية، فإنه يتوجَّب على الكاتب المسيحي أن يبدأ في فهم موضوع الالتزام فهماً جديداً. إن المفهوم القديم للأدب المسيحي أن يلتزم بالقوانين الصارمة التي تمليها طبيعة الإدراك الديني على الكتّاب والمؤلفين. من ناحية، فإن هذه النظرة لا يصحّ أن تخرج عن سياق النص الديني ولا عن روحه. ومن ناحية أخرى فإن هذه القوانين التي فرضتها ظروف عصر من العصور، أو تأويلات بعض اللاهوتيين في فترة ما من تاريخ الكنيسة، لم تأخذ بعين الاعتبار أن أساليب التعبير قد تختلف من عصر إلى عصر، وأن موضوعات الأدب الديني يمكن معالجتها على ضوء معطيات الأحوال الاجتماعية السائدة.
ولكي لا يكون كلامي محض تكهنات أو نظريات شخصية لا تنطبق على الحقيقة أودّ أن أضرب للقارئ مثلاً أو أكثر على ما أرمي إليه.
لنأخذ مثلاً سفر نشيد الأنشاد في العهد القديم. إن هذا السفر، في رأيي ومن وجهة نظر فنية شعرية، هو من أروع قصائد الحب التي عرفتها البشرية. أقول هذا، لأنني لا أهدف أن أتحدَّث عن المغازي اللاهوتية والرموز الروحية التي استقرأها اللاهوتيون في هذا السفر. ولكنني في هذا البحث أركز على الأسلوب الذي استخدمه الشاعر في التعبير عن أفكاره ورموزه وصوره الشعرية. بل دعني أقول، لو أن أحد الكتاب المسيحيين المعاصرين نظم قصيدة على غرار ما ورد في سفر نشيد الأنشاد فهل توجد مجلة مسيحية تنشر له قصيدته أو مقالته أو قصته؟ ومع كل ذلك فإننا نجد أن جامعي أسفار العهد القديم قد صنَّفوه كواحدٍ من الأسفار الموحى بها على الرغم من أساليبه الأدبية المكشوفة.
فهل المضامين الرمزية الروحية تبرر هذه الأساليب التي تدعو أحياناً للتساؤل؟ أنا أؤمن أن الحياة بخيرها وشرها، هي جزء من المادة الأدبية، وأبمن أكثر أن من حق الكتاب المسيحيين المتجنّدين في خدمة رب المجد، أن يتناولوا جميع هذه الموضوعات ويعالجوها على ضوء روح الكتاب المقدس. إنني أرفض رفضاً باتاً الخروج عن روح التعليم الكتابي، ولكن في كثير من الأحيان علينا أن نستوحي من أساليب العصر والاتجاهات الفنية السائدة أساليبنا وفنون تعابيرنا لنكون على صلة بالمجتمع الذي نعيش فيه.
فما رأي قارئي العزيز لو أن كاتباً مسيحياً استخدم أسلوب الشعر الجاهلي في ديباجة مقاله، وأقحم فيها ألفاظاً وتعابير ميتة لم تعد معروفة أو مستخدمة في لغة العصر الذي نعيش فيه؟ ماذا لو استخدم المؤلف كلمة السجنجل (ومعناها المرآة) بدل المرآة؟ من يفهمها؟ ويمكنني هنا أن أورد آلافاً من مثل هذه الألفاظ الغريبة التي يرفضها الذوق المعاصر.
ولكن عندما نتناول قضية مشاكل المجتمع، فإن الواقعية تتطلب منا أن نكون أمناء في معالجتها والتعبير عنها. يمكننا أن نتحدث عن المحبة، والإيمان، والرجاء، والصدق، والأمانة، والخلاص، وغيرها من الموضوعات التي تملأ صفحات مجلاتنا الدينية المسيحية، ولكن علينا أيضاً أن نعالج الموضوعات الأخرى التي تمزّق مجتمعاتنا كالرشوة، والسرقات، والطمع، والطلاق، والزنى، والمراهقة، ومظاهر الخلاعة ليس لغرض الإثارة إنما لتبيان مساوئها وما هو مواقف الكتاب المقدس منها. وعندما نكتب عن هذه الموضوعات علينا أن نتمتع بالجرأة الكافية لنعبِّر عنها بأسلوب واضح ولا نتردد خوفاً من الانتقاد.
في الستينات من القرن الماضي انتشرت موجة ”الهبيّة“ في الغرب كما في الشرق؛ وكان لها تأثير كبير على عقول الشبيبة والطلاب الجامعيين. والذين عاصروا هذه الحركة في تلك الفترة شهدوا انقسام مجتمعاتنا الشرقية حول هذه الحركة. وقام الصراع بين هذه الانطلاقة التي دمَّرت في رأيي حياة زمرة كبيرة من شباب العصر، وبين المفاهيم التقليدية التي تمسكت بها الأجيال المتأصلة في التراث الاجتماعي. ولو أراد مؤلف مسيحي صادق مع نفسه، أن يكتب قصة تمثل ذلك العصر بكل ما فيه من حرية فوضوية، وقلق وتمرد وانهيار أخلاقي ومخدرات، فهل في وسعه أن ينتج رائعة أدبية إن تفادى عن وصف، ودراسة، وتصوير تلك الجوانب من الحياة ”الهبية“؟ وهل يمكن لمثل تلك القصة، بل أية قصة أخرى أن تخلو من تصوير صادق للمشاعر البشرية، سليمة كانت أم ملتوية؟ طبعاً إن الغرض من مثل هذا التصوير هو إعطاء صورة عن الوضع المتردّي وكيف يمكن إنقاذ الإنسان، هذا الذي خلقه الله على صورته ومثاله، من الهوّة السحيقة المنحدر إليها، على ضوء تعليم الكتاب المقدس. وعندما يقدّم المؤلف المسيحي الحلّ لهذه المشكلة، عليه أن يعرضها ليس بأسلوب وعظي إنما من خلال حوار قصصي محمّل بروح الكتاب ومحبة المسيح.
إن مرحلة الستينات هي مرحلة خطيرة من حياة القرن العشرين، ولكني لم أجد كاتباً مسيحياً واحداً من الناطقين بالضاد كانت لديه الشجاعة الكافية للتصدي لهذه المرحلة فيقتحم مجاهيلها، ومخاطرها بأسلوب جريء وحتى مكشوف أيضاً إن استلتزم الأمر، على أن تكون الغاية هي الرجوع إلى الحق الإلهي.
إنني على يقين أن أحد أسباب ضعف أدبنا المسيحي هو التهرب من الواقع، فنكون كالطبيب الذي يتهرّب من تشخيص المرض لخطورته، وبالتالي يتفادى معالجته.
على مبضع الكاتب المسيحي أن يكون حاداً وعلى التشخيص أن يكون دقيقاً، وعلى العلاج أن يكون فعّالاً. فالمسيح نفسه لم يتوانَ أن يتناول موضوعاته من واقع الحياة، وهي حياة أدرك الشعب مراميها، وفهموا غاياتها لأنها كان لها مساس مباشر بهم.