كانون الأول (ديسمبر) 2006
”صوت سُمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير، راحيل تبكي على أولادها ولا تريد أن تتعزّى لأنهم ليسوا بموجودين“ (متى 18:2).
تشير قصة المجوس أو الملك هيرودس إلى أنّ أحداثاً جُلّى كانت تدور في أرجاء قصره. ويتّضح من الدراسة التاريخية لهذه الفترة أن هذا الملك قد كتب قبل وفاته ما لا يقلّ عن ست وصايا عيّن فيها مجموعة من وارثيه اختلفت أسماءهم ومكانتهم وفقاً لرضى هذا الملك أو عدم رضاه. ويبدو أن التنافس كان شديداً بين هؤلاء الورثة، كما أن أروقة القصر الملكي شهدت مؤامرات واغتيالات، فكانت حياة هذا الملك مُفعمة بالقلاقل والهزات السياسية - فاعتمد القسوة في القضاء عليها حفاظاً على ملكه وعرشه. ولا عجب إذن، أن هذا الملك، إذ سمع بوجود المجوس، وأصغى إلى أخبارهم، أن ثارت في أعماقه المخاوف إذ علم بعد استشارة رؤساء الكهنة وعلماء اليهود أنه من نسل الملك داود، وهو صاحب الحق الشرعي في عرش إسرائيل. ومع أن هيرودس هذا كان من أصدقاء روما، وقد حظي برضى الإمبراطور الروماني، فإن مخاوفه، بعد تجربته مع أولاده من زوجاته الست جعلته يدبر إحدى مكائده الكبرى للقضاء على المولود العجيب.
وإذ استدعى المجوس ومالأهم حتى تمكن من الإطلاع على خيارهم، قرر في نفسه أن يقضي على جميع مولودي مدينة بيت لحم من الذكور من ابن سنتين فما دون. لقد تذرّع هيرودس بحجة أن المجوس الذين اعتمد عليهم بتزويده بأخبار الطفل المولود في بيت لحم حسب النبوّة: ”وأنتِ يا بيت لحم أرضَ يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منكِ يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل“
(متى 6:2) قد سخروا منه ولم يرجعوا إليه. لا ريب أن هذه النبوّة قد أفزعت هيرودس، ففضلاً عن أن هذا المولود قد يهدّد عرشه، فإن انتظار الشعب لظهور هذا ”المسيا“ وفي ربوع مملكته سيجعل الشعب يلتفّ حوله ويدينون بالولاء له على أساس من النبوءات. إذن فأفضل وسيلة للمحافظة على المُلك هو استئصال شأفة هذا الخطر المستفحل قبل أن يشيع أمره في جميع أنحاء البلاد.
إن هذه الحجة الواهية كانت سبباً في حلول كارثة رهيبة على مدينة بيت لحم. فهذا الملك الطاغي أرسل جنوده وقتلوا بحد السيف جميع الأطفال؛ ولعلّ هؤلاء الأطفال هم أول شهداء ”المسيحية“
لأنهم ذُبحوا من جرّاء مولد المسيح.
يُنبر الكتاب المقدس أن المجوس انطلقوا إلى بلادهم عن طرق أخرى، وأن ملاكاً من عند الرب ظهر ليوسف وأمره أن يأخذ مريم وابنها إلى مصر، وهكذا نجا المولود من المذبحة الفاجعة.
والجواب الخطير الذي نتوقف أمامه هو: من كان حقاً وراء هذه المذبحة؟ صحيح أن هيرودس هو الذي أمر بتنفيذ المذبحة، ولكن هيرودس نفسه كان ينفذ خطة سيده وهو إبليس. ربما لم يكن هيرودس يدري أنه عبد للشيطان وأنه كان أداة طيّعة بين يديه، وظنّ أنه سيّد نفسه، بل في وسعه أن يفعل ما يشاء وهو الآمر الناهي، ولكن الحقيقة هي أنه كان ألعوبة اتخذها إبليس للقضاء على المولود المقدس، وبالتالي يحبط خطة الله لفداء الإنسان. كانت هذه أوّل محاولة يقوم بها الشيطان ليعطّل عمل الله، ولكنها أخفقت كل الإخفاق وإن كان على حساب ثمن باهظ هي نفوس هؤلاء الأطفال الأبرياء.
وفي تجارب المسيح في البرية كانت المحاولة التالية؛ محاولة بذل الشيطان فيها كل جهده كي يغري المسيح عن القصد الذي جاء من أجله، ولكن، وللمرة الثانية، باء بالفشل. وهنا أقول: نحن لا ندري إن كان الشيطان قد هاجم المسيح إبان الفترة السابقة لخدمته الجهارية، ذلك أن الكتاب المقدس لم يورد لنا تفاصيل تلك الحقبة من حياة المسيح. أما المحاولات الأخرى التي عمد إليها الشيطان لثني الفادي عن إكمال عمل الآب فكثيرة، بلغت ذروتها عند الصليب. فالشيطان ظنّ، أو هكذا خُيّل إليه أن موت المسيح على صليب اللعنة معناه نهاية خطة الله. ولست أشك لحظة واحدة أن دهشة الشيطان عند قيامة المسيح كانت دهشة مرعبة إذ تيقّن له أنه كان في إثارة اليهود ضد المسيح إنما ينفّذ القصد الإلهي على الرغم منه. ولا غرابة إن جُنّ جنونه آنئذ واستنفر كل قواته ليملأ الدنيا شراً وفساداً انتقاماً من المسيح. إن الذين قُتلوا في بيت لحم من الأطفال لم تذهب دماؤهم هدراً. فإن صراخهم، وعويل أمهاتهم، وبكاء آبائهم قد ارتفع إلى مسامع الرب، وكأنما الرب، العالِم بالمستقبل، قد كافأ مدينة بيت لحم سلفاً، إذ وُلد فيها المخلص فأصبحت محجة لكل الأمم والشعوب، ولم تعد ”الصغرى بين رؤساء يهوذا“، كما أن الله أنزل الويلات والدمار في بيت هيرودس الأدومي، إذ لم يلبث بعد عدد من السنين أن زال ملكه بعد أن انقسمت المملكة وبعد أن اختلف أبناؤه فيما بعد.
إن الدروس البليغة التي نتعلمها من هذه الحادثة وسواها من الحوادث التي جرت في حياة المسيح أبلغها:
أولاً، إن الشيطان لا يريد الخير للإنسان. وقد استطاع بأحابيله ومؤامراته أن يستعبد الجنس البشري ويخضعه لإرادته، فعمّ الفساد واستشرى الشر حتى خُيِّل لإبليس أن العالم بأسره أصبح خاضعاً له. ولكنه نسي أن موت المسيح الكفاري الذي ابتدأت حلقته الأولى بالميلاد المجيد، قد اجتذب إليه الكثيرين، وأن ملكوت الله قد ابتدأ على الأرض في قلوب الناس. إن جيش الخلاص يقف على أهبة الاستعداد لخوض المعركة الأخيرة التي تدمر أركان مملكة الشيطان الذي سيُطرح في بحيرة النار الملتهبة.
ثانياً، إن ميلاد المسيح، على الرغم من جميع المؤامرات والمكائد، كان عربون انتصار على تدبيرات إبليس وتحقيقاً لخطة الله، وتتميماً للنبوءات. صحيح أن طريق الجلجثة كان مليئاً بالفخاخ والحفر، ولكنه كان الطريق الوحيد لبلوغ الذروة التي لم يتوقعها إبليس.
أخي القارئ، إن الخلاص الذي نناله بالإيمان بالمسيح ليس خلاصاً لا ثمن له، بل إن الثمن كان أعظم من أن يدفعه أي إنسان. لقد تطلّب عملاً إلهياً عجيباً، فوُلد المسيح، ابن الله الحي ليكون الحمل الذي يرفع خطايا العالم، وبذل نفسه من أجلي ومن أجلك. من العار علينا أن تسترخص قيمة الدم المسفوك، وإن فعلنا فإن دينونة الله لنا في ذلك اليوم المخوف تكون دينونة رهيبة لأننا استخففنا بدم ابنه.