كانون الأول (ديسمبر) 2006
نحن اليوم على بعد أيامٍ من عيد الميلاد "كل عام وأنتم بخير"، وهذه كلماتٌ تقليديةٌ يرددها الناس في كلّ مناسبة تمرّ عليهم، وتعبِّر عن أمنية يتمنّاها الصديق لأصدقائه، ونحن أيضاً من خلال هذه المجلة نتمنى الخير لكلّ قرّائها على تعدّد أطيافهم وانتماءاتهم.
فنحنُ والعالمُ اليوم نعيش في أجواء عيد الميلاد، وطلائع العام الميلادي الجديد، مع أنَّ أيام العيد تشرق الشمس فيها وتغيب كغيرها من الأيام. ومع ذلك فهي تُحْيي في القلوب ذكرى عطرة لحدثٍ هام وعزيز. والذكرى كما نراها، تعمل عمل ساعي البريد، تدق باب بيتك في لحظةٍ من الزمن وتسلمك رسالة وتذهب، وقد تترك في نفسك أثراً يترتَّبُ عليه اتخاذ قرارٍ ما!... وقد تمرّ المناسبة دون أن تحرّك بك ساكناً.
فسؤالي اليوم لك قارئي العزيز:
ما هي الرسالة التي يحملها هذا الساعي الجديد الذي سيقرع باب بيتك وتسمّيه عيد الميلاد، أو السنة الجديدة؟ هل تصرّ على البقاء كما أنت؟! أو تنوي التغيير؟ اغتنم الفرصة وتغيَّر عما أنت فيه للأفضل، فعيد الميلاد الذي يتكرر كلّ عام ما جاء للتسلية، بل هو يحمل لكَ ولكِ رسالة للتغيير. وتذكَّر معي أن رسالة الميلاد جاءت من فوق، من السماء. فصاحب الميلاد هبط من عرش السماء وسكن أحشاء العذراء المباركة لحكمةٍ هو يعرفها. فحينَ بشَّرَ الملائكة رعاة الأغنام في ليلة الميلاد جاءوا برسالة، والرسالة تستحق الانتباه، وهي تعطيك الفرصة لتدخلَ العام الجديد بثوبٍ جديدٍ وقرارٍ جديدٍ إعلاناً منك على أنك قبلت التغيير لتبدأ سنة جديدة بأفضل من السابق.
ففي الميلاد الله قد زارَ الأرض. ومع أنَّ صفات الله تباركَ اسمه صفات مجيدة وجليلة في كمال مطلق، إنما بالميلاد تُسَلَّطُ الأضواءُ على صفة المحبة في الذات الإلهية فَتُبرزها بأحلى وأقدس معانيها، لأن بالميلاد الله زارنا، فهو أحبنا وجاء ليعبّر عن حبه للبشرية.
في ما سبق من أزمنة، كانت معاملات الله مع خلائقه من الناس تصلهم بوكالة أنبيائه، فينوب عنه الأنبياء في توصيل الحقائق للناس دون اتصال مباشر بينه وبين خلائقه من البشر. فقام الأنبياء كلٌ في زمانه وحملَ الأمانة وأوصلها للجموع، ولذلك تتكرر العبارة على ألسنة أنبياء التوراة، كلما جاء أحدهم برسالةٍ ليبلغها للشعب فيقول: "هكذا قال الرب". وبقي الناس يتلقّون أوامر النَّهي والتَّحليل والتَّحريم من أفواه الأنبياء، كما أمرهم الله دون أن تكون لدى الناس فكرة واضحة عن الله سوى أنه عظيمٌ، مهوبٌ، جبارٌ، قديرٌ، ديّانٌ، منتقمٌ، لا يُدنى منه!... وبقي بين الله والناس حجابٌ فاصلٌ، لا يحق للشعب من غير الأنبياء اختراقه أو تجاوزه، إلى أن جاء المسيح، وبالمسيح تقابل الطرفان الله والإنسان في وجه يسوع المسيح. فبميلاد المسيح دخلت البشرية في نقلةٍ جديدةٍ في علاقة الاتصال بينها وبين الله، إذ بالميلاد جاء الله وظهر بين خلائقه بهيئة المسيح القدوس، وتحدَّث إليهم عن قرب، فساكنهم وعاشَ بينهم وأظهر حبّه لهم ومراحمه وإحساناته دون وساطةٍ، لا من ملائكة ولا من أنبياء. وبهذا يكون دور الأنبياء قد انتهى وصار الله هو سيّد الموقف يمكن التعامل معه مباشرة من خلال المسيح.
هكذا شاء الله، وهكذا صار، وحين يشاء الله أمراً لا اعتراضَ على حكمهِ. ثمّ وأثناء وجود الله متجسداً بهيئة بشر بهذه الصورة المحيّرة للكثيرين، قدَّم الله للأجيال البشرية تجسيداً عملياً لكلّ المُثـُل والمعايير السامية التي يتطلبها هو في سلوك المؤمن السويّ، إذ قدّم المسيح أثناء فترة تجسده على الأرض صورة مثالية لجمال الحياة الروحية، فقام هو في مقامِ المؤمن الملتزم بأنظمة الله وتعاليمه من صلاةٍ وصومٍ وحبٍّ للخير ومسالمةٍ للناس.
في الميلاد الله زار أرضنا وظهر بيننا بهيئة إنسان. ومَنْ يمنعُهُ من أن يأخذ جسداً يخفي خلفه جلال مجده؟! ولأن الإنسان لا يقوى على المثول أمام جلال الله، أصبح جسد المسيح هو الحجابُ الذي كلمنا الله من ورائه. لأن الله لا يكلّم إنساناً إلا من وراءِ حجابٍ. والحجابُ هنا كان جسد المسيح الذي به جاء، ووُلدَ، وتألم، وصُلب، ومات كإنسانٍ، لكنه قام أيضاً وغلب الموت، وصعد إلى السماء، المقرّ الدائم لجلاله. فالتجسّد لم يُنْقص من جلال الله، وبتجسُّده لم يترك عرشه في سمائه، ولا سهت عينه عن زاويةٍ من زوايا كونِهِ الفسيح، ولا غابت عينه عن أيِّ جزءٍ من عالمِهِ المنظور وغير المنظور، فالله هو الله لا يتغير ولا يتبدَّل، إنما هو شاءَ لغرضٍ جاء من أجله أن يظهرَ بين خلائقه من وراء حجاب جسد المسيح المنظور، وبنفس الوقت بقي هو مالئ السماوات والأرض، وبَقِيَ هو الحيُّ القيُّوم والحكيم المقتدر الذي لا حدودَ لسلطانه.
لا شك أن البعض من غير المسيحيين لا تروقُ لهم هذه المعاني والأوصاف. لا بأس في ذلك! فنحنُ تعلَّمنا من إنجيلنا أن نحترمَ حرية الإنسان في ما يميل إليه من فكرٍ أو مبدأٍ طالما هو لا يتعدَّى على غيره. فقضايا الإيمان قضايا تدخل في دائرة الله، والحاكم الفصل فيها هو الله وهو صاحب القضية. لذلك نقول: فليؤمن من يؤمن بما نقدمه من تعاليم إنجيل الحق، وليرفض من يرفض، والإيمان لا يتأتّى بالإكراه أو بالإغراء ولا حتى بالفذلكةِ الكلاميةِ، وفي يوم الدِّين ستنكشف الحقيقة أمام شعوب الأرض، وهناكَ مَنْ سيبكي وينوح، ومَنْ سيفرح ويهلل...
لي هنا كلمة أقولها بكلّ صراحة، وهي أن الحقائق لها مدلولاتها على الأرض ممثلة بسلوك أتباعها. فمن يتبع عقيدة ربَّانية حسنة، إنْ سلك حسناً قدّم شهادة بسلوكه عن فحوى ما يحمله من معتقدٍ، وإن سلك باطلاً خانَ الأمانة وخدع الناس وقدّم صورة غير واقعية عمّا ينتمي إليه من معتقد.... ولذلك نقول: إن المسيحي الذي لا يعيش المسيحية بأمانة وصدق يُسيء إلى مسيحيته إذ يُعطي الناظر إليه صورة غير واقعية عمّا ينتمي إليه.
فالمسيح يقول: ”ليس كلّ من يقول لي: يا رب. يا رب. يدخل ملكوت السماوات (أي يدخل الجنة) بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات - (أي الذي يعمل إرادة الله)“، فالقولُ هو كلام يطيرُ في الهواء، أما الإيمانُ فيظهرُ بالسُّلوك العملي لصاحبه. هنيئاً لك يا من اخترت المسيح رفيقاً في الدرب، فهو الله معك، وهو مَنْ يحميك ويردّ عنك الأذى. بدون المسيح أنت في ضياعٍ، وقد تعيش في أجواءِ أوهامٍ أو أحلامٍ قد تبدو دينية، لكنها تشغلك عن الوصول إلى شاطئ الأمان. ارفع قلبك إليه ولو في صلاةٍ صامتةٍ واطلبه، فأنت بدونه تسيرُ وحيداً في عالمٍ شائكٍ وفي درب موحش لا سلام ولا استقرار فيه.
ها هو المسيح يناديك في إنجيله، يقول: "هاأنذا واقفٌ على الباب وأقرع، إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي".