شباط (فبراير) 2006
إن كلاً منا، حين يتألم، سرعان ما يشعر بأن ألمه فريد من نوعه وحدّته، فيصرخ بمثل هذه العبارات: "دعوني وحدي"... "اتركوني وشأني".. "إن أحداً منكم لا يفهم طبيعة أحزاني"..
وهكذا يصبح الشخص المتألم في ناحية، والعالم كله في ناحية أخرى.
فهذه نفس اجتماعية متفتحة، تتجاوب مع الآخرين، تتجه بكل مشاعرها إلى المساعدة والاختلاط مع الآخرين. لكن على حين غفلة، تتلقّى ضربة عنيفة... فلربما تصاب بمرض عضال، أو تفاجأ بخيانة شريك الحياة، أو غدر وتنكّر صديق العمر. وكما نقول في أمثالنا: "الدخان القريب يُعمي". فإذا بتلك النفس، في طرفة عين، تنسحب من الحياة الاجتماعية لكي تعاني في صمت مرارة الألم وقسوة العزلة، وهنا تضع أرجلها على بداية الطريق الصحيح! فإن للعزلة والانفصال والانسحاب – إلى حين – من حياة اللهو، والمرح، والضياع داخل المجتمع قيمة خاصة. فهي في معظم الأحيان السبيل الوحيد إلى حياة خصبة ممتلئة ومثمرة. فنحن نحتاج من حين لآخر أن تُنتزع أنفسنا من حياة السأم والخواء والاطمئنان الوهمي داخل الجماعة، لنندفع إلى حياة منعزلة منفردة نراجع فيها أنفسنا، ونختبر قدرة عقولنا على تنظيم انفعالاتنا، ونمتحن قدرة إرادتنا على تعقيل أهوائنا.
والواقع، إن خبرة الألم هي التي تضطر الذات إلى الانسحاب من ضجيج العالم وبهرجته لكي تغوص في أعماق وجودها للعمل على اكتشاف ما بداخلها من قيم. والآلام التي عاناها البعض كوّنت معظم الجانب الشخصي من حياتهم، وهي التي تمدّ الإنسان بثروة باطنية يدخرها ويتسلح بها ضد ما يأتي به المستقبل من هجمات، فتصقل الشخصية وتدعم جذورها ضد زوابع الزمن وتقلبات الدهر.
كان يوسف الصديق شاباً مدللاً ألبسه أبوه قميصاً ملوّناً مميِّزاً إياه عن بقية أولاده. وكان كثير الأحلام لا يكف عن المباهاة بتلك الأحلام حتى أن إخوته "ازدادوا بغضاً من أجل أحلامه ومن أجل كلامه" (تكوين 8:37). وكان في خطة الله أن يكون يوسف هو حكيم ذلك الزمان الذي يأتمنه على البشر في وجه مجاعة آتية ستقضي على الأخضر واليابس. فكان لا بد من تعليمه وتدريبه ليصبح وزير الاقتصاد الذي يتحكّم في عصب الحياة في ذلك الوقت ألا وهو "القمح". والمدرسة الوحيدة والكلية المتخصصة في ذلك هي مدرسة "الألم". فتعلّم في مدرسة خيانة إخوته له، وطُرح في بئر، ثم ادّعوا بأن ذئباً افترسه، ثم بيعه كعبد لفوطيفار العزيز المصري. ثم انتقل إلى مدرسة الافتراء وتلويث السمعة الشريفة وادّعاء امرأة العزيز بأنه حاول اغتصابها - حتى أنه اضطر إلى ترك ردائه حين صرخت - وهي التي أمسكت بردائه فتركه لها. وبتلك الحادثة انتقل إلى كلية العزلة، والوحدة، والطرح في غياهب السجن، حتى حلم فرعون حلمه الذي احتاج إلى من يفسره. فتذكر مسجون سابق يوسف "مفسّر الأحلام" الذي تقابل معه في السجن وفسر له أحلامه. ولنرَ ونسمع كلمات يوسف بعد تخرجه من مدارس الألم حين تقابل مع إخوته: "لا تخافوا. هل أنا مكان الله، أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً، لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً" (تكوين 19:50-20).
عاش الفيلسوف هنري برجسون حياة ماجنة مستهترة، ثم سمح له الله أن يمر في أصعب تجارب الألم ونيران الشك، فانسحب لفترة من حياته، وصار في تلك الفترة مؤمناً حقيقياً بالمسيح. وبعد أن اكتسب خبرته الدينية والفلسفية، كتب عن نفسه وعن أولئك الذين مروا بنفس تلك الخبرة: "إن تياراً هائلاً من الحياة أخذهم، وانبعثت من حيويتهم المزدادة طاقات عجيبة من القوة، والجرأة، والقدرة على التصميم. ويتميّزون بصحة عقلية نادرة، ورغبة في العمل، وقدرة تكيُّف مستمرة مع الظروف، والحزم المزدوج بالمرونة، وتمييز لما هو ممكن وغير ممكن".
نعم، إننا نبتاع أسمى القيم بأقصى المحن، ونشتري الخبرة بالآلام وأفدح الأثمان.