تشرين الأول (أكتوبر) 2006
في كل معجزة تناولناها بالبحث في ما سبق من حلقات، لاحظنا الدليل القاطع الذي يؤكد على حقيقة هوية المسيح. الأصحاح السادس من إنجيل لوقا يطلعنا على حدثين هامين يحملان المؤشر الصحيح في من ترى يكون المسيح.
عن الحدث الأول يقول الإنجيل: "وفي السبت... اجتاز (يسوع) بين الزروع. وكان تلاميذه يقطفون السنابل ويأكلون وهم يفركونها بأيديهم. فقال لهم قوم من الفريسيين: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟" تجدر الإشارة هنا إلى أن من بين الوصايا العشر التي تسلمها موسى النبي من الله كانت الوصية الرابعة التي أوصت بحفظ يوم السبت كيوم راحة أسبوعية، فاستغلّ شيوخ اليهود الوصية وتشددوا في تفسيرها وحمّلوها أكثر مما تحتمل.
فعندما مرّ يسوع مع تلاميذه وسط الزروع في موسم فريك القمح، قطف التلاميذ أثناء سيرهم بعض السنابل، وفركوها بأيديهم وأكلوها، فاحتجّ الفريسيون المتشددون على التلاميذ، ولو أمكنهم لأنزلوا القصاص بهم لولا أن الحكم كان للرومان. هذا الأسلوب من التأزم والمواجهة بين المتطرفين من اليهود من جهة والمسيح وتلاميذه من جهة أخرى، تكرر في عدة مواقف، وهو شكل من أشكال المغالاة في تفسير الشرائع الدينية. وهو أسلوب منتشر بين شعوب الأرض سواء في الشرق أو الغرب حين تنفرد بعض المدارس الدينية المتشددة في تفسير المعتقد الديني بحرفية متصلّبة، وتنفرد لوحدها في الحكم على الآخرين، فيُنَسِّبون الناس على مزاجهم ويحكمون هذا للجنّة وذاك للنار!
قالوا: لماذا تفعلون ما لا يحل فعله في السبوت؟ فتدخّل المسيح بحكمة وقال لهؤلاء: أما قرأتم ما فعله داود حين جاع هو والذين معه. كيف دخل بيت الله وأخذ خبز التقدمة وأكل وأعطى الذين معه أيضاً الذي لا يحلّ أكله إلا للكهنة فقط؟ وداود حينها كان نبياً هارباً من وجه شاول الملك الذي كان يتعقّبه ليقتله... وداود كنبيّ كان يعرف الحرام والحلال، فلم يخطئ فيما فعله. ثم ختم المسيح قوله لهؤلاء المتشددين مشيراً إلى نفسه قائلاً: "إن ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً."
بمعنى: أنا هو واضع الشريعة، أنا من سلّم موسى شريعة السبت وكل الوصايا، فمن أنتم الذي تحكمون على غيركم وكأنكم أكثر غيرة وحرصاً على تطبيق سنن الشريعة بالمغالاة والتشدّد! وفي مناسبة أخرى مشابهة بخصوص حفظ يوم السبت، قال المسيح لمجادليه: ”السبت إنما جُعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت“. وفي كلا الحالتين أفحم مجادليه ولم يردّوا عليه بكلمة.
نأتي الآن إلى الحديث الثاني في هذا الأصحاح، إذ يقول: وفي سبت آخر دخل المجمع وصار يعلم، وكان هنالك رجل يده اليمنى يابسة، وكان الكتبة والفريسيون يراقبونه هل يشفي في السبت لكي يجدوا عليه شكاية... أما هو فعلم أفكارهم وقال للرجل الذي يده يابسة: "قم وقف في الوسط". فقام ووقف. ثم قال لهم يسوع: أسألكم شيئاً: هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو إهلاكها؟ سؤال وضع مقاوميه على المحك، فجسّد الحقيقة أمام عيونهم بشهادة الحاضرين، لكي ينطقوا ويقرّوا بقبولها أو رفضها.. ولما لم يجيبوا، نظر حوله إلى جميعهم نظرة حزن أو على الأصح نظرة غضب يمازجها حزن بسبب غلاظة قلوبهم. ثم قال لصاحب اليد اليابسة: مدّ يدك... ولما فعل عادت يده صحيحة كالأخرى. وكان الحضور خليط من الناس، فبعضهم دُهشوا من هول المعجزة، أما المتعصبون من حُماة الشريعة فيقول فيهم الإنجيل: امتلأوا حمقاً وصاروا يتكالمون فيما بينهم في ماذا يفعلون بيسوع، أخذوا يتآمرون ويتوعّدون في كيف يمكنهم أن يتخلصوا من يسوع، لأن معجزة كهذه هي من القوة لتزيد من شعبية المسيح، وهذا بالتالي يسحب البساط من تحتهم، ويشكل مرجعية دينية بديلة عنهم.
في موقف شبيه بهذا تحدّثنا عنه في حديث سابق وقلنا فيه أنه عندما أقام المسيح لعازر بعد دفنه بأربعة أيام، فبدل أن يزدادوا إيماناً، تآمر المتعصّبون وحاولوا قتل لعازر لأن كثيرين آمنوا بيسوع بسببه.
التاريخ لم يغفل عن ذكر مثل هذه النوعية من الفئات المتعصّبة، والتي لها وجود ظاهر بين كل شعوب الأرض من كل المعتقدات الدينية. فالمتعصّب يضع ستارة سوداء أمام عينيه لئلا يصل إليه نور الحقيقة من غير دائرته كمثل هؤلاء الفريسيين الذين كل ما نقرأه عنهم في صفحات الإنجيل يعطينا نفس الانطباع ونفس الموقف المتشدد والعنيد رغم وضوح صورة الحق التي تُطرح عليهم. فالمتعصب يغلّف دماغه– لو جاز التعبير– بغلاف صلب ليمنع انفتاحه على الرأي الآخر لأن حكمه المسبق هو أنه هو من يمتلك الحقيقة، وأن غيره على باطل. وهذا يمثـّل صورة من صور التقوقع، والعزلة، والانغلاق على النفس، وهدم جسور التواصل مع الغير، والاستفراد بالرأي. صور كهذه هي عبارة عن أوبئة اجتماعية تعاني منها شعوب كثيرة وبدوافع مختلفة؛ منها الدوافع الدينية، أو السياسية، أو العرقية حين يقوم فريق من هؤلاء أو أولئك بفرض إرادته على الغير وتخطئة الرأي الآخر.
في نظرة ختامية على مجريات معجزة شفاء اليد اليابسة، لا بد من عِبَر نستخلصها:
أولاً: أذكّر هنا قرّاء الكتاب المقدس بأن الشخص الذي شفى هذه اليد اليابسة هو الشخص الذي يبّس يد ملك شرير مدّها نحو بيت الله محتجاً على ما أراده الله وأعلنه، فيبست يده في الحال. (يمكن للقارئ العزيز لو رغب أن يتعرّف على تفاصيل الحدث في سفر الملوك الأول الأصحاح الثالث عشر).
ثانياً: تجدر الملاحظة بأنه تم شفاء الإنسان الذي يده يابسة دون أن تلمسها يد المسيح. لكن المعجزة جرت هكذا في صمت لمجرّد أن أراد وبدون كلمة منه، فحين قال للرجل مد يدك ومدها، ففي ذات اللحظة التزمت عناصر الطبيعة المعينة بتنفيذ المهمة، فعادت اليد إلى وضعها السليم على الفور. ونتساءل مع من يمكن أن يتساءل: من هو هذا الذي تنصاع لأمره عناصر الكون حتى وإن لم ينطق بكلمة، لكن لمجرّد أن يكون الشيء فيكون؟
ثالثاً: كثيرون من الناس اليوم يعانون من أيد يابسة... يابسة في البذل، يابسة في العطاء، في عمل الخير، في تقديم يد المساعدة لمحتاج؛ فالأيدي مشلولة، لا قدرة لها أن تفعل الصلاح، قد تأخذ بطريقة أو بأخرى، لكنها لا تعطي. أما سبب هذا الشلل فهو الخطية المتغلغلة في دم الإنسان. الخطية يبّست الأيدي، وأغلقت القلوب، وخدّرت الضمائر، وأغلقت على النواظر لئلا ترى النور أو تتعرّف على الحقيقة... أن تتعرّف على المسيح من هو... لتعرفه!