أيلول (سبتمبر) 2006
أذكر هذه الآية في بداية هذه الرسالة:
”الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوّتك“ (تثنية 4:6-5).
في قلب كل إنسان رغبة عارمة تدفعه بأن يُحِبّ وأن يُحَبّ. فالجوع إلى الحب في القلب الإنساني هو جوع وضعه الله في قلب الإنسان.
وقد ذكر C. S. Lewis الفيلسوف المسيحي في كتابه The Four Loves أن هناك أربعة أنواع من الحب: الحب الطاهر، الحب الشهواني، حب الأصدقاء، حب الطبيعة والحيوان
ومما يدعو إلى الأسف والحزن أن عالمنا المعاصر كاد يخلو من الحب الطاهر، وأصبح الحب فيه بدافع الشهوة، وصار الجنس معبوداً يسجد في هيكله الملايين.
لكن الجوع إلى الحب الطاهر، وإشباع هذا الجوع هو طريق السعادة الحقيقية.
وهنا أذكر قصة الصغير ”جوني“ الذي أخذه والداه إلى مستشفى الأطفال في مدينة ”أبيوود“ بإنجلترا، إذ أُصيب بمرض يحتاج إلى علاج طويل... ثم مضى شهر ولم يزر الوالدان ولدهما... ثم شهران، ثم ثلاثة... كان الصغير يتطلع كل لحظة إلى الباب متوقّعاً أن يرى والديه، ولكنهما لم يعودا لرؤيته... اتصلت إدارة المستشفى بالعنوان الذي تركه الوالدان، فلم تجد لهما أثراً... ومضت أعوام والصغير المسكين يرى الأمهات والآباء يزورون من معه في الغرفة من الصغار ويحملون لهم الهدايا، وهو وحده في سريره لا يزوره أحد ولا يفكّر فيه أحد.
كان الصغير جائعاً إلى الحب... فبدأ يكذب على رفقائه الصغار لينفي عن نفسه عار الوحدة والنسيان... وراح يقول لهم: ”لقد زارتني أمي في الليل أمس أثناء نومكم وأمطرتني بالقبلات، وأبي أيضاً جاء معها... وأدركت كبيرة الممرّضات في المستشفى أن جوع الطفل إلى الحب هو الذي اضطرّه إلى الكذب... فنشرت قصته وصورته في الصحف.. وفي اليوم التالي كان الكثيرون يقفون أمام باب المستشفى وهم يحملون الهدايا للصغير ”جوني“.. وبكت سيدة أمام الباب لما منعوها من الدخول، فقد ركبت ثلاث قطارات وقطعت مسافة كبيرة لتزور هذا الصغير الجائع إلى الحب.. فسمحوا لها بالدخول، وأخذ ”جوني“ الهدايا التي أحضرها من زاروه، وراح يوزّعها على رفقائه، وأحسّ بالدفء يسري في كيانه بعد البرودة، وبالحب الذي غمره به الكثيرون يحوّله إلى إنسان سعيد. كان ”جوني“ جائعاً إلى الحبّ!
ومنذ وقت نشرت جريدة ”نيوز كرونيكل“ في إنجلترا قصة رجل مات ابنه في الحرب.. كان قلبه عامراً بالحب لولده. فلما مات الولد أراد أن يغدق هذا الحب على مخلوق آخر.. وإذ لم يجد بين الناس من يغدق عليه حبه، أغدق هذا الحب على قطة.. فحبس نفسه في بيته لأجلها.. لا يخرج ولا يحرّك قطعة من الأثاث، ولا يفتح نافذة إلا بحساب.. وأصيبت القطة التي أحبّها بمرض في عينيها وأنفق الرجل على علاجها كل ما اقتصده من مال في حياته. لكن القطة فقدت بصرها.. وكانت تتعثـّر حين تصطدم بأثاث البيت، ولذلك ثبّت الرجل كل مقعد في مكانه، وكل قطعة أثاث في موضعها، لتراها القطة بذاكرتها بعد أن فقدت بصرها.. وكان لا يفتح نافذة حتى لا تسقط القطة منها، وإذا فتح نافذة احتضنها بين ذراعيه ليطمئن على سلامتها.
هذه قصة ”حب غريب“ لكنها ترينا أن في قلب كل إنسان حباً كبيراً يريد إغداقه على الآخرين.
لكن ما هو الطريق الصحيح لإشباع جوع القلب الإنساني إلى الحب؟
الطريق الصحيح هو أن تحب الرب إلهك وتتيقّن من حبه لك فلا أحد غيره يستطيع أن يُشبع جوع قلبك.
”تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك“ (تثنية 4:6-5).
لكن كيف تختبر هذا الحب؟
اختبار هذا الحب من كل القلب.. ومن كل النفس.. ومن كل القوّة... يتطلّب أن تعرف من تحبّ، وتدرك مدى حبّه لك.
”في هذا هي المحبّة ليس أننا نحن أحببنا الله بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه كفارة لخطايانا“ (1يوحنا 10:4).
حب الله حب كبير.. حب عريض، وطويل، وعميق، وعالي، وإذا تأمّلنا عظمة هذا الحب وفهمنا مقاييسه، فسنحب الله.. وسيغمر حبّه كل نواحي حياتنا وبهذا نشبع جوع قلوبنا إلى الحب.
لقد غمر هذا الحب قلب ”دكتور جورج ماثيسون“ الكاتب الإنجليزي، الذي خطب فتاة أحبّها بكل قلبه.. وأثناء فترة الخطبة أحسّ بألم في عينيه، فذهب إلى طبيب العيون الذي أخبره أنه خلال ستة أشهر سيفقد بصره.. وظنّ الدكتور ماثيسون أن خطيبته ستكون النور الهادي في حياته بعد أن يتزوجها.. وكان أميناً معها، فأخبرها بما قاله الطبيب له.. وبهدوء كدت أقول ببرود خلعت خطيبته خاتم الخطبة من إصبعها وأعطته له وهي تقول: ”آسفة.. لكنني لم أتصوّر قط أنني سأتزوّج رجلاً أعمى“.. وخرج ماثيسون يهيم على وجهه في الطرقات.. وسمع ترنيماً ينساب من مكان قريب، فدخل ذلك المكان، وسمع عن حب المسيح المريح.. وركع جورج ماثيسون، مسلّماً حياته لمن أحبّه ومات لأجله على الصليب وكتب بعد ذلك ترنيمته المعزّية التي تصوّر محبة الله التي لم تتخلّ عنه فردّد الكلمات:
أيتها المحبة التي مداها لا يحدّ
مآثمي ابتلعتها مع أنها بلا عدد
يزول خوفي إذ مخلّصي الحبيب أنظر
وإن تهب الريح والأمواج فوقي تهدر
وفارقتني قوتي وصحتي والأصدقا
تظل نفسي حبلها بمن فداها موثقا
وهكذا غمرت محبة المسيح ذلك الشاب ”ماثيسون“ فأنسته جمود قلب خطيبته، وعوّضته عن نور البصر بنور البصيرة.
وفي إنجيل يوحنا نلتقي بامرأة كانت جائعة إلى الحب، فتزوّجت خمسة رجال.. وأخيراً عاشت مع عشيق، ولكنها لم تجد في هذا الحب الآثم شبعاً أو ارتواء إلى أن التقت بالمسيح، فأعلن لها حقيقة ذاته، وأفاض عليها من حبه الإلهي الغامر، حتى نست ذاتها في شخصه، وغمر شخصه القوي شخصيتها المحطّمة، فأشبعها وروى ظمأ نفسها العطشى إلى الحبّ، وأحسّت المرأة حلاوة حب المسيح، وشبعت بهذا الحبّ الرفيع عن كل حبّ آخر في هذا الوجود.. ومضت لتخبر أهل مدينتها عن حب المسيح.
إن حب المسيح هو حب حقيقي، لأن المسيح موجود في كل مكان... يتألّم، ويتضايق، ويشاركنا آلامنا، ويمنحنا دفئاً طاهراً من حبّه الأزلي.
وقد أشبع يسوع بحبّه عشرات الملايين من البشر بهذا الحب، حتى ضحّوا من أجله بكل شيء.
”ففرنسيس ردلي هافرجال“، الكاتبة الإنجليزية، أحبت المسيح حتى أنساها مع غناها المادي كل ما في العالم، فكانت لا تشتري ثوباً، أو تخرج لزيارة، أو تنطق بكلمة إلا بعد استشارته.
”وتشارلس ستَدّ“ المرسل الإنجليزي العظيم أحب المسيح حتى دفعه هذا الحب إلى التضحية بميراثه الضخم الذي تركه له أبوه، والذهاب لأفريقيا للخدمة وسط السود وربحهم للمسيح.
”وجوزفين بتلر“ المعروفة باسم نور الساقطات، أحبت يسوع حتى رفعها حبه فوق حضارة زمانها، فخرجت تبحث عن الساقطات وتأتي بهنّ ليختبرن حب المسيح.
وماذا أقول أيضاً لأنه يعوزني الوقت إن أخبرت عن ”فلورنس نايتنجيل“ التي أطلقوا عليها الممرضة ذات المصباح والتي أنارت بمصباحها آلام الجنود الذين كانت تعتني بهم، و”ماتيلدا فريدا“، و”إيفا الهولندية“، و”ليليان تراشر“ مؤسسة ملجأ أسيوط، و”روجينا بيرسون“، مؤسسة المدرسة التي علّمت الكثيرين في ملّوي بجمهورية مصر أولئك اللواتي أحببن المسيح حباً قوياً، وبدافع هذا الحب ضحّين بالزواج وبملذّات العالم، وعملن أعظم وأنبل الخدمات لهذا العالم المسكين.
فهل اختبرت حب المسيح؟
وهل أشبع بحبّه جوع قلبك إلى الحب؟
قديماً قال القديس أغسطينوس: يا الله أنت خلقتنا لذاتك ولا تشبع نفوسنا إلا بحبك!