كانون الأول (ديسمبر) 2007
في ليلة الميلاد تغيّر وجه التاريخ..
اشتركت السماء والأرض في الاحتفال البهيج الذي عمّ الكون لأن حدثاً يفوق كل إدراك أزال الحجب التي كانت بين عالم الألوهية والعالم الإنساني. لقد تجسّدت كلمة الله، الرب يسوع المسيح، في جسد بشري لتحقيق الوعد الإلهي الذي وعد به الله آدم، لكي يستردّ الإنسان شركته التي فقدها عندما عصا ربه وضلّ، منساقاً وراء رغبة داخلية بدت له في أول الأمر تتفتّح عن آمال كبار تجعل منه عالِماً بكل قوى الحياة المتصارعة من خير وشر.
لقد ظن الإنسان أنه في موقفه هذا الذي خدع به نفسه واستجاب لرغبة الشيطان انه أصبح يطل على عالم جديد مليء بأشواق ثائرة، حياة ملوّنة تتجاوب مع النوازع الخفية في قلب الإنسان الميال إلى الإذعان إلى أهوائه.
إن هذا الموقف الذي اتخذه الإنسان من الله اعتقاداً منه أنه أكثر وعياً من حكمة الله، وأن الله قد ظلمه حقاً حين حرمه من أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. لم يدرِ آدم آنئذ أن شجرة معرفة الخير والشر كانت امتحاناً لمدى ولاء آدم وطاعته لأوامر خالقه.
نحن لا نعلم شيئاً عن ماهية هذه الشجرة أو شكلها أو نوع ثمارها، ولكنها كانت في وسط الجنة صورة حيّة عن موقف الإرادة البشرية في سعيها المتواصل، إما للنموّ الروحي والطاعة المطلقة، وإما للخضوع للذات التي تعتمل فيها نزعات مخالفة لإرادة الله.
عندما خلق الله آدم جعله سيد الفردوس، متحكماً بكل ما فيه من حيوان ونبات وأسماك. كل شيء خاضع لآدم إلا تلك الشجرة التي منعه الله عن أكل ثمرها. أصبحت تلك الشجرة شوكة في حلقه، وراودته الشكوك حول مقاصد الله من هذا الحرمان الصارم الذي أخضعه الله له. ولعلّ آدم في تأمله اليومي بتلك الشجرة اختلجت في صدره الخواطر التي هي جزء من طبيعة الإنسان، وراح يتساءل: ما الذي يحدث لي لو تناولت ثمرة من ثمار هذه الشجرة المحرّمة وأكلت منها؟ هل موتاً أموت كما قال لي الله لو أقدمت على هذه الخطوة الجريئة؟
وفي رأيي، إن الشيطان الذي أغرى حواء أولاً، واستخدمها لكي تقضي على روح المقاومة في نفس آدم، لم يكن قادراً على إيقاع آدم في حبائله لو لم يكن آدم قد مرّ في أتون الشكوك والتساؤلات وحتى استنكار تحذيرات الرب له. أقول هذا لأنني أعتقد أن الشيطان قد وجد في نفس آدم تربة صالحة ليزرع فيها بذور التمرّد والتشوّق والاكتشاف.
صحيح أن الطبيعة البشرية تنحو نحو الاكتشاف. وعلى ضوء الاكتشاف تطورت المدنيات فأثمرت اختراعات التكنولوجيات الحديثة، والأدوية وسواها، ولكن في وضع آدم كان الاكتشاف الذي تاقت إليه نفسه سبباً في دماره لأنه كان قائماً على تحدّي أوامر الله، وعصيانه. فالاكتشاف قد يكون سلبياً كما قد يكون إيجابياً.
وفي وضع آدم كان الاكتشاف سلبياً مدمّراً لأنه كان مخالفاً لأوامر الله ونواهيه، وقد أسفر هذا الموقف عن مضاعفات قلبت جميع المفاهيم الروحية في علاقة الله مع الإنسان. ولا بدّ هنا من إبداء ملاحظتين هامتين:
أولاً: عصيان آدم
كان عصيان آدم بداية عملية الانفصال بين الله والناس. فالكتاب المقدس ينبر على أن خطايا الإنسان قد أصبحت فاصلة بين الله وبين مخلوقاته البشرية، وبالتالي، فإننا قد وجدنا أنفسنا في وضع روحي مزرٍ وفي عالم استشرى فيه الشر، والمادية، والطمع، والقتل، والزنى، وكل ما يمكن أن يخطر على البال من إثم. أصبح عالمنا مناقضاً كلياً لذلك الفردوس البديع الذي خلقه الله لكي يتمتع فيه بعلاقة رائعة طاهرة مع مخلوقه الإنسان. طبعاً لم يخلق الله الإنسان ليرتكب الشر في عينيه، بل خلقه لكي يعبده ويمجده. ولكن الله خلق في الإنسان الإرادة التي تفرّقه عن الحيوان وحتى، بوجه من الوجوه عن الملائكة. كان غرض الله من هذه الإرادة التأكيد على الحرية وليس على العبودية. فعلاقة الله بالإنسان هي علاقة حرية وليست علاقة عبودية. من هنا كانت شركة الله مع الإنسان تتميّز بهذه الحرية المتفردة. لم يخلق الله الإنسان ”ميكانيكياً“ ولكن أعطاه الحرية ليكون مسؤولاً عن مواقفه وتصرفاته. كان في وسع آدم أن يتحدّى إغراء الشيطان، ولكنه سقط في غبائه في حبائل إبليس وتحدّى الله.
وثانياً: موقف آدم
كان موقف آدم سبباً في وقوع الدينونة على الإنسان. فالحرية والاختيار يقتضيان مسؤولية وما يترتب عنها من نتائج. فدينونة الله لم تكن اعتباطية بل كانت مرتبطة باختيارات الإنسان لأن عدالة الله مرتهنة بالموضوعية وغير قابلة للتحيّز. من هنا، حسب وعده لآدم دخل الموت إلى حيّز الوجود. ولست أقصد هنا بالموت الجسدي فقط، بل أشير إلى الموت الروحي، أي العذاب الأبدي جزاء للخطية والعصيان.
غير أن الموت الروحي هذا لم يكن من مقاصد الله الأساسية وإلا لما كان هناك أي داعٍ لخلق الإنسان على صورته ومثاله. ويمكنني القول إن الموت الروحي أحزن قلب الله لأن الله في خطته الإلهية كان عالماً ما هي تكاليف هذه الخطة والثمن الباهظ الذي دفعه المسيح على الصليب من أجل فداء مخلوقه المتمرّد.
بركات الميلاد
من هنا كان ميلاد المسيح بداية الصورة الكاملة لتنفيذ خطة الله. هذا الميلاد الذي بدا متواضعاً في مدينة صغيرة في مذود بقر هو الذي غيّر التاريخ الإنساني من حيث علاقة الله بالإنسان، فالميلاد:
أولاً: أظهر محبة الله للإنسان
لقد كلفت هذه المحبة موت ابن الله الحبيب على الصليب.
ولولا الميلاد، بل التجسد، لما كان الصلب ولما كان الفداء. إن عملية الصليب الفدائي هذا من مضاعفات الخطيئة والعصيان، ولكن الله تجلى بمحبته لكي يتمم مطالب العدالة الإلهية، ولكي يظهر مدى اهتمامه بالإنسان.
ثانياً: رفع الدينونة عن الإنسان
ثانياً، لولا الميلاد لما ارتفعت الدينونة عن الجنس البشري. ففي مولد المسيح، ثم صلبه، قبل الآب الذبيحة الأبدية كفارة عن خطايانا، وصارت لنا حياة خالدة حسب برّ المسيح. لقد تحمّل المسيح آلام العقاب وهو البريء؛ ليشرّع أمامنا أبواب الحياة ويعيد إلينا الفردوس المفقود، لا لجدارة فينا ولكن بفضل بذله لحياته من أجلنا. يقول الكتاب أنه ”لا دينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع“، بمعنى آخر، إن ميلاد المسيح كان الخطوة الأولى في طريق الجلجثة التي تمّ فيها انتصار المسيح على الموت الروحي؛ فاستعدنا بفضله الحياة التي لا تعرف الموت.
ثالثاً: صالح الإنسان مع الله
كان الميلاد سبباً في مصالحتنا مع الآب السماوي، ففي المولد المقدس ابتدأ بناء الجسر الروحي فوق الهوة التي فصلتنا عن الله. إنه عودة إلى العلاقة التي كانت بين آدم والله قبل السقوط، فأصبحنا بالإيمان بهذا المولود، وقبول صلبه والاغتسال بدمه الزكي، ورثة للملكوت لأن كل الذين قبلوه [أي المسيح] فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أبناء الله. إنها بنوّة روحية تعجز الخطيئة الآن عن القضاء عليها كما فعلت في زمن آدم. لقد تمت المصالحة، وأكمل بناء الجسر الخلاصي، وتمّ تحقيق عملية الفداء.
وهكذا لولا الميلاد لبقي العالم على وضعه القديم بل لظلّ الشر، والدينونة والانفصال والموت الأبدي مستفحلاً في وجودنا من غير رجاء الخلاص.
فهل، يا قارئي العزيز تراءى لك ولو بصيص من النور عن مغزى الميلاد؟