Voice of Preaching the Gospel

vopg

شباط (فبراير) 2007

منذ فترة قصيرة عثرت على أقصوصة كنت قد كتبتها في الستينات، في الفترة التي كانت الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الشرقي تتمخّض عن أحداث هائلة كان لها دور هائل في صياغة العقود التالية في تاريخ أمتنا. ولم يكن تأثير تلك الأحداث أشد بروزاً أكثر من بروزه في حياة الشبيبة ولا سيما الحركات الطلابية الجامعية. فهناك من كان يعيش على أحلام المثالية السياسية، وهناك من كان يقتات بأوهام الهبيّة التي تسربت من الغرب إلى أوساطنا الاجتماعية، وأصبحت أنماط تصرفاتنا تُقاس بمقياس الرؤى الجديدة التي لم تكن ترتكز على أساس ثابت، أو وعي طبيعي لجوهر الحياة. وأخذت المعايير الجديدة تهدم من صرح التقاليد التي ورثناها على مدى التاريخ والتي كانت جزءاً لا يتجزّأ من صرح بنائنا الاجتماعي.

 

في ظل تلك التقلبات التي كنت ضائعاً فيها كما ضاع لفيف كبير من أصدقائي وزملائي في الجامعة، أخذت أخط تلك الأقصوصة بروح متمرّدة، وغضب جامح على كل تقليد ورباط يشدّنا إلى الماضي، على اعتبار أن الماضي هو سر بلائنا. فهذه التقاليد، والمعايير، والروابط هي التي تحدّ من تقدمنا، وحرياتنا، وتمنعنا من التقدم في مضمار السباق العالمي لتحقيق أحلامنا وآمالنا.

وإذ أخذت أعيد مطالعة ما كنت قد سكبته على الأوراق وأسترجع بخيالي أحداث تلك الفترة، راعني أن أجد نفسي تضل في متاهات ما كتبت، وتجوس في مغاليق مجتمع قد أحاط نفسه بسياج شائك من الأوهام خلقته لنفسي كبقية رفاقي، ظانين أننا كنا في الواقع ننقض جدران الجهل والعبودية لكي نمرح في رحاب الحرية. ولكن الواقع كما بدا لي، وأنا أطالع هذه الأقصوصة، أننا أبناء ذلك الجيل كنا نشيّد حول أنفسنا جدراناً سميكة من أطلال ما هدمنا، أو كما خُيِّل إلينا أننا هدمناه. وفي لحظة تبين لي أن المشكلة الكبرى في وضعنا الذي كنا نعيش فيه هو أننا قد فقدنا الرؤيا، وأننا انطلقنا في دنيانا بلا هدف، ولا غرض، نقتلع أسس الماضي من غير أن نقيم في محله مستقبلاً متماسكاً، نركن إليه عندما تهب علينا عواصف الحياة أو أعاصير التجارب.

كنا في خضمّ هذا الجيشان نعيش الفوضى ”الهبيّة“ بمظاهرها المختلفة، بعضنا بخجل وحياء والبعض الآخر باندفاع وجنون؛ نمرّغ أنفسنا بالأوحال ونحن لا ندري أن حمأة الموت قد فتحت فاها لتبتلع كل واحد منا. كنا نضحك، ونسخر من كل شيء لا يتفق مع مرامي ما دعوناه بالحرية حتى أصبحت هذه الحرية المزيّفة عبودية صفّدتنا بقيود من الانهيار الأخلاقي وجنون الرغائب البشرية التي لا وازع لها. وما لبثت الحياة أن تحوّلت إلى منطقة جرفتها حمم بركان ثائر فأصبحت بلا معنى، تستبدّ بها ”العدمية“. وأذكر من جملة ما أذكر، أن أكثر من صديق لي قد أصابه الغثيان من وجوده وأدرك في لحظة فقد فيها إحساسه بالزمان والمكان أن الحياة قد فرغت من مضامينها، فأقدم على الانتحار ليضع حداً لآلامه وأوجاعه النفسية.

وشملت هذه الاتجاهات المتطرفة معظم الأجيال الصاعدة إذ ارتبطت أيضاً بالأوضاع السياسية المتدهورة التي نخرت في الأنظمة والنكسات العسكرية والهزائم الحربية التي منيت بها الدول العربية، فتركت خيبة الأمل هذه جروحاً غائرة في نفوس الشبيبة، من طلاب وطالبات وحتى رجال الفكر.

وحاولت آنئذ، أن أجد جواباً أقنع به نفسي أن ثورتنا الجديدة هي الحل لإنقاذ وضعنا المتردي من مهاوي الدمار، ولم أكن أدري أن ثورتنا لم تكن مبنية على أسس راسخة نعتمد عليها في بناء مجتمع جديد صالح؛ فكل ما كنا نفعله هو تشييد أبنية من رمال على شاطئ البحر فتأتي الأمواج وتجرفها في طرفة عين. وكلما جاهدت، كما جاهد سواي، في اكتشاف حل، كنا نشعر أننا نغرق في الرمال المتحركة التي تشدنا إلى الأعماق. ومع ذلك أبينا بكل عناد، أن نقر بعجزنا، وأننا ضائعون في عالم مجنون.

والغريب، كل الغريب، أن الحل كان في الواقع في متناول أيدينا. وهو حل رفضناه منذ البداية مع أنه كان الحلّ الأفضل والأسلم والفعّال لمعالجة كل مشاكلنا. لقد افترضنا منذ البداية أن الدين هو خرافة أو وهم من وضع الخيال البشري، وأن الذين يتمسكون فيه ما برحوا يعيشون في القرون الوسطى. إننا الآن في القرن الحادي والعشرين، هذا القرن الذي يضجّ بالاكتشافات الحديثة؛ أما الدين، فقد أصبح قصة قديمة، حديث عجائز، لا يتمسك به إلا كل جاهل. والواقع إن الذين كانوا يضمرون في أنفسهم بعض التدين، كانوا يسارعون إلى إخفائه خشية سخرية رفاقهم ”المتعصرنين“.

ولا بدّ لي هنا أن أقرّ أن الثورة ”الهبيّة“ كانت ثورة عمياء. صحيح أن بعض تقاليدنا كانت تستوجب التغيير، ولكن الثورة ”الهبيّة“ كانت ثورة على الأساس، مع أنها نفسها كانت بلا أساس. وشيء آخر: إن النقمة والسخرية التي تعرّض لهما الدين كانتا تقومان على فهم خاطئ للدين. إن الحركات ”الهبيّة“  والنزعة العدمية قد هاجمت الطقسية، والتقاليد والممارسات الدينية، ولكن الدين، في حقيقته لا يقوم على الطقسية والتقاليد والممارسات، إنما محوره شخص المسيح بالذات. فالدين المسيحي بالأخص، من غير المسيح، يفقد قوته ومعناه ويتحوّل إلى ممارسة ميتة. فالطقوس والتقاليد والممارسات هي ميتة من غير المسيح الحيّ. من هنا كان الهجوم على الدين يحمل في ذاته فهماً خاطئاً يقوم على الجهل والغباء.

من الألقاب التي وُصف بها المسيح في سفر إشعياء أنه ”مشيراً عجيباً“. وفي الحقيقة أن النص العبري يشير أنه ”المشير العجيب“. وهذه الخاصة التي تميّز بها شخص الرب يسوع المسيح قد أغفلناها في العصر الهبّيّ. كنا نبحث عن حلول ولكننا قلما توجّهنا إلى من بيده الحل. فالمسيح في نظر البعض قد حدّ من حريتنا بتعاليمه الأخلاقية؛ قد جرّدنا من حقوقنا لأنه يريد أن يفرض حقوقه علينا. كنا نبحث عن الحرية والتقدم، ولكننا أثقلنا أنفسنا بالأغلال والقيود. كنا نريد المشورة، ولكننا رفضنا قبولها. فالمسيح المشير العجيب المطلع على الماضي والحاضر والمستقبل كان، وما زال، في وسعه أن يقدِّم لنا المشورة الصالحة التي تقودنا إلى مرفأ الأمان وتمتّعنا بالحرية لأنه ”إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً“. لقد حجّبنا أنفسنا بنقاب كثيف لكي لا نرى النور، لأن رغائبنا الهوجاء انطلقت بجنون فأخفت عن عيوننا حقيقة النور.

وما زال العالم حتى اليوم لا يدرك أن المسيح هو نور العالم، بل ما برح يعيش في الظلمة والعبودية والانهيار الروحي.

إن المشير العجيب يدعوك إليه في مطلع هذا العام الجديد لكي تُقبل إليه ليقدِّم إليك خارطة حياة مفعمة بالحرية والطمأنينة والتي في نهايتها تنتظرك حياة أبدية سعيدة في محضر من أحبك حتى الموت.

المجموعة: 200702

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

175 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
11578506