كانون الثاني (يناير) 2007
نظرتْ إليَّ السكرتيرات الثلاث نظرةً ملؤها الاستغراب وقلن والدهشة تعلو وجوههن: "هل أنتِ متأكدة ممَّا تقولين؟"
قلتُ بحزمٍ وشدة: "بالطبع، فأنا ذاهبة لتوِّي إلى البيت وأريدكن أن تلغينَ كلَّ مواعيدي مع زبائن الصالون لكل فترة بعد الظهر".
قالت إحداهن: "لكنَّكِ يا سامية لم تُقدمي على هذا الفعل من قبل؟!"
أجبتُها بكلِّ حزمٍ: "هيا افعلي ما قلته لكِ وبدون أيِّ جدل". ولمَّا حاولَتِ الاعتراضَ مرةً أخرى أومأتُ إليها بيدي لكي تصمت، وتأبطتُ حقيبتي وتركتُ صالون التجميل الذي أملكه بعاملاته والمساعدين، متوجهةً إلى المنزل. وما أن وصلتُ حتى خلعت حذائي وركضت إلى غرفتي وأغلقت الباب ورائي. كل ما كنت أرغب في عمله هو أن أختلي بنفسي عساني أصل إلى ما يسكِّن قلبي ويهدِّئ من روعي. فركعت إلى جانب السرير ورحت أصرخ من أعماق قلبي المعذب وأقول: "يا رب أنقذني، يا رب خلِّصني.." واستنجدت بالله علَّه ينجدني، وسكبت شكواي أمامه لكي يفكَّ أسري ويزيلَ مني خوفي وهلعي، ويمنحني سلامه وفرحه الحقيقيين.
أجل، هذه سامية بقامتها الممشوقة ووجهها الباسم وعينيها البراقتين، وقفتْ تتحدث إلينا عن اختبارها في اجتماع السيدات في كنيستي ولقد شدَّتْ انتباهنا بحديثها ومصداقية كلامها. وتابعتِ القول: "أنا سامية اعتدتُ على حضور درسٍ للكتاب المقدس مع مجموعة من الأصحاب في إحدى الكنائس في لوس أنجلوس. خررتُ يوم ذاك على الأرض أمام فراشي، أبكي وأنتحب وأستجدي الرب الإله من أجل أن يمنَّ عليَّ بالراحة الحقيقية والفرح الأكيد الذي كان يحظى به أصدقائي. ومضى على ركوعي وأنا أصلي أكثر من ثلاث ساعات. لم أحس بالوقت، ولم أتعب، بل كل ما كنت أبغيه من توسلي إلى الله هو أن أحصل على الخلاص الأكيد لنفسي الأثيمة المتعبة، ولكي ينزع مني حبي الكبير للعمل والمركز والشهرة والمادة التي منحتها أولوياتي. صليت أن يكسر جسدي هذا. لم أعلم قط ماذا عنيت بهذه الصلاة ولكن سرعان ما أدركْت بُعْدَها بعد ذلك بأسابيع عديدة.
أجل، هذا هو شوق قلبي وما فتئ منذ أن كنت صغيرة. فلقد وُلدت في عائلة محافظة تقية في بيروت - لبنان. وهناك ومنذ نعومة أظفاري تعلمت في الكنيسة الأرثوذكسية وكذا الأسقفية الكثير عن الله والإنجيل. وعندما بلغت من العمر عشر سنوات هاجر والديّ والعائلة إلى كاليفورنيا حيث حططنا الرحال في لوس أنجلوس. وبقيت أبحث وأختي الكبرى نجوى عمَّا يشبع نفوسنا من الداخل، ولم نفلحْ. ففي قلوبنا الصغيرة كانت هناك أسئلة كبيرة لم نجد لها أجوبة شافية أو حُججاً مقنعة. وذهبنا من كنيسة إلى أخرى علَّنا نجد ضالتنا المنشودة لكن من دون فائدة. وكل ما وجدناه هو الكثير من التديُّن والتقى اللذين لم ينقصانا. وحصلت وأنا في السادسة عشرة على الكتاب المقدس باللغة الإنكليزية. فقمت بقراءته وثابرت على ذلك في كل يوم.
بعد تخرجي من الثانوية وانخراطي في الكلية، تزوجت من رياض الشاب الظريف الذي أحببت. وانخرطنا كلانا في كنيسة فعالة فيها الكثير من النشاطات للشبيبة. وتمتعنا بالعشرة مع الأصحاب. لكنني بقيت مولعة بالماديات جداً وأحببت عملي إلى آخر حد في صالون التجميل الذي امتلكته. وكانت إحدى زبائني امرأة شابة متزوجة تأتي إلى الصالون وتجلس مع أولادها بكل أدب ورزانة، وتتكلم دائماً عن زوجها ومحاسنه. شدت انتباهي بكلامها وسلوكها، وبدأنا نحكي عن الله والكتاب المقدس حتى صرنا صديقتين حميمتين وأحسست أنها النور الذي أنار طريقي. وآل بي المآل إلى أن أتتلمذ على يديها.
إلى أن أتى ذلك اليوم الذي اسودَّت فيه الدنيا في عيني. فلقد قررت وزوجي، أن نسافر لزيارة أقربائنا المقيمين في Washington - Seattle فاستشرت الطبيب قبل ذهابي لأنني كنت حاملاً بطفلي الأول، فشجعني على ذلك. وما كدتُ أصل إلى المطار في يوم السفر ذاك حتى انتابني وجعٌ أليم في رجلي. ظننتُ أنه تشنُّج في العضلة. فتناولت دواء مسكناً للوجع. ولكن الألم لم يتوقّف، فأخذت جرعة أخرى من Tylenol. وفي اليوم التالي في Seattle توجهت إلى المستشفى. وبعد الفحوصات، تبيَّن لي أنني أعاني من سبع جلطات دموية في رجلي وقد انتقلتْ إحداها من الرِّجْل حتى الفخذ وأخرى إلى الرحم. وقال لي الأطباء حينذاك: إننا متأسفون، فنحن لا يمكننا أن نوقف الجلطات وحياتك وحياة طفلك في خطر جسيم. فسألتهم يومها: "هل سأموت؟" قالوا: "نعم. أمامك ثلاثة أيام فقط". عندها شعرت بدُوارٍ في رأسي، وأحسست بالخوف يسري في داخلي، وجزِعْتُ من الموت جداً ورحت أصلي في داخلي كيما يمنحني الرب فرصة لأنال خلاصه .وظللْتُ في المستشفى مدة أسبوعين. وعلى الرغم من ضعف جسدي وألمي إلا أنني كنت أترجى كل من اتصل بي بأن يصلي من أجل خلاصي من الجحيم. وهذا ما صعق الكثيرين من الأصدقاء. وبعد أسبوعين كاملين من الألم والمعاناة استطاع الأطباء السيطرة على حالتي واعترفوا عندها بأنَّ هناك قوة خفية ترغب في إبقائي على قيد الحياة بعد أن أيسوا من حالتي.
وبعد ذلك عدت إلى Burbank، ومن جديد إلى المستشفى حيث فقدت طفلي الذي حملته في أحشائي. وحزنت جداً! لكنني بقيت أصلي وأقول: يا رب أنا مستعدة أن تُتلف جسدي الترابي هذا، لكي تمنحني خلاصك وفرحك الدائم وتنزع مني الخوف من الموت. لكنَّ أمراضي زادت، وصرت أدخل إلى المستشفى كل مرة لكي أعالج من أعراض جديدة كانت تهاجم جسدي عجز الأطباء عن معرفة سببها. فمرة قالوا إنني أعاني من السرطان، وأخرى من ضعف الدم، إلى أن جاء اليوم الذي عرفوا فيه بأنني فعلاً مصابة بمرض اللوبيز Lupus، وهو مرض خطير لأنه يهاجم أعضاء الجسم رويداً رويداً. وفي ربيع عام 1988، وبعد مضي ستة أشهر على فقداني للطفل، نُقلت إلى المستشفى من جديد. لكن في هذه المرة بدا لي كل شيء مختلفاً عن السابق. لأن الخوف من الموت الذي انتابني قبلاً، كان قد تركني إلى غير رجعة. وحلَّ محله سلام عجيب في قلبي. عندها أدركت أن الله قد خلَّصني فعلاً من خطاياي وأنقذني من عقاب الموت. لكن، كيف ومتى؟ لست أدري. بل كل ما أعرفه هو أنَّ بين فترة المستشفى الأولى في سياتل وفترة المستشفى بعد مضي ستة أشهر، قد منَّ الله عليّ بخلاصه العجيب وسلامه الذي لا يوصف. وصرت متيقنة ومستعدة أن أموت دون خوف أو وجل، حتى تعجب الأطباء والممرضات من سروري الزائد. فقلت: "لا يهمني أن جسدي يَفنى من المرض، لأن نفسي قد خلُصت. وأنا الآن مستعدة للذهاب". ولم تكن تلك التجارب سوى جزء من تعاملات الله معي وغدوت أهتف مع أيوب وأقول: "بسمع الأذن سمعت عنك أما الآن فقد رأتك عيناي".
وفي مطلع العام ألفين هاجم مرض Lupus جهازي العصبي في الدماغ، ومرة أخرى أخطأ الأطباء وظنوا أنها من علامات مرض آخر هو MS الذي يصيب العضلات فيشلّها شيئاً فشيئاً. وصرفتُ مدة سنة ونصف وأنا في السرير وتزعزع إيماني، أما الله فعاد ليطمئنني ويقول لي: "سأبقى أميناً معك. فقط ثقي بي". كرَّست حينذاك حياتي له بالكليَّة سواء في حياة أو موت. ونقلني بهذه المحنة الجديدة إلى خطوة أعمق في الإيمان وفرح عظيم ليس له مثيل.
والآن عدت وزوجي إلى الاستقرار من جديد في لوس أنجلوس. وكلمة الرب لازالت تعزيني في محنتي في كل يوم وخاصة الآية: "لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً. لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدياً" (2كورنثوس 16:4و17).
أما الترنيمة المفضلة لديّ فهي: محبة الله المدهشة وبالإنكليزية: Amazing Love حتى إنني أوصيت زوجي بأن تكون هي محور العظة يوم انتقالي من هذا العالم الفاني. إن حياتي منه وله، ولا شيء في العالم يستطيع أن يضاهي هذه العلاقة التي أنعم بها الآن مع يسوع المسيح ربي. وأخيراً أقول: والقادر أن يحفظكم غير عاثرين ويوقفكم أمام مجده بلا عيب في الابتهاج، الإله الحكيم الوحيد مخلصنا له المجد والعظمة والقدرة والسلطان الآن وإلى كل الدهور . آمين.
سامية الشامي أندراوس