كانون الثاني (يناير) 2007
وأما منتظرو الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يُعيَون" (إشعياء 31:40)
دعونا نتأمل في طريق هذه القوة والحياة الغالبة:
أولاً: سبيلنا إلى هذه القوة الغالبة هو انتظار الرب
إن الغلمان الموفوري الصحة يُعيون ويتعبون، والفتيان الذين يتمتعون بشباب ونضارة يتعثرون تعثراً. "وأما منتظرو الرب فيجددون قوة." إذاً سبيلنا إلى القوة وإلى الانتصار هو أن ننتظر الرب.
المقصود بانتظار الرب
ليس الانتظار هو الكسل، أو عدم النشاط وتوقّع ما قد يأتي أو لا يأتي. ولكن انتظار الرب يعني أننا نضع ثقتنا كاملة في الرب؛ بمعنى أننا فشلنا من أنفسنا وأننا ننتظر الرب وحده، وهي ذات الكلمات التي قالها بولس الرسول: "فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ." دعونا ننتظر الرب بأن نضع ثقتنا كاملة فيه، ولا نعتمد على ذواتنا.
ثم إن انتظار الرب يعني أيضاً الطاعة، أي ننتظر أوامره لكي نتممها. انتظار الرب يعني أننا نطيع هذا الإله الذي وضعنا ثقتنا فيه. إن السبيل إلى الانتصار هو طريق الطاعة. إننا كثيراً ما نحرم أنفسنا من الغلبة حين لا نطيع الله ولا نسمع أوامره.
لم يكن في وسع نعمان السرياني أن ينال شفاءه لو لم يطع. وهؤلاء البرص الذين طالبهم المسيح أن يذهبوا ويروا أنفسهم للكهنة، ما كانوا نالوا شفاء لو لم يطيعوا. والتلاميذ لو لم يطيعوا المسيح ويلقوا شباكهم على الجانب الأيمن ما ظفروا بصيد. وأنت وأنا إن لم نطع سيدنا فإن حياتنا تبقى فقيرة ضعيفة بلا ثمر ولا غنى.
ثم إن انتظار الرب يعني أن نعمق محبتنا له كانتظار العروس لعريسها. ولأنها تحبه فإنها تبقى منتظرة. قد يطول غيابه، قد يفقد الآخرون الثقة في عودته، ولكن لأنها تحبه تنتظر عودته. ننتظر الرب بمعنى أن لا نحب شيئاً أو شخصاً أكثر منه. بعد قيامته سأل المسيح سمعان بطرس قائلاً: "يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء؟" بمعنى أن المسيح قصد أن يقول: يا سمعان بن يونا أتحبني أكثر من هؤلاء التلاميذ؟ أكثر من إخوتك؟ من أحب أحداً أكثر مني فلا يستحقني. أو لعل المسيح يسأله قائلاً: "هل تحبني يا سمعان أكثر مما تحب شباكك ومهنتك وعملك؟ سواء كان المقصود المعنى الأول أو الثاني فالأساس هو أن المسيح يسألنا أتحبني أكثر من أي شخص ومن أي شيء آخر.
دعونا ننتظر الرب بأن نحبه وأن يكون المسيح الأول في حياتنا.
ثم انتظار الرب يشتمل على الصلاة. يقول داود في المزمور الأربعين: "انتظاراً انتظرت الرب فمال إليّ وسمع صراخي." أي أنه كان في انتظاره للرب يصرخ ويصلي، وسمع الرب صراخه وهو ينتظره. أن ننتظر الرب معناه أن نعيش حياة الصلاة والشركة الدائمة مع الله.
ثانياً: انتظار الرب يعطينا قوة
وهذه القوة تظهر في ثلاث نواحي في حياتنا: يرفعون أجنحة كالنسور في حياة الشركة. يركضون ولا يتعبون في حياة الخدمة. يمشون ولا يعيون في حياة القداسة.
1- يرفعون أجنحة كالنسور
انتظار الرب يعطينا قوة وانتصاراً في حياة الشركة "يرفعون أجنحة كالنسور."
هم يرتفعون عن دنايا العالم: حين ننتظر الرب يجدد فينا قوة فوق مستوى العالم، نعيش فوق الجبال من حيث يأتي عوننا.
هكذا كانت حياة المسيح فوق الجبال: من فوق جبل علّم أجلّ التعاليم وألقى موعظة الأجيال والدهور، ومن فوق جبل كان يتحدث إلى الله الليل كله. كان يذهب إلى جبل الزيتون ويقضي الليل في الحديث مع الآب. ومن فوق جبل اختار تلاميذه. وفوق جبل عُلّق على صليب. ومن فوق جبل صعد إلى السماء، وحين يأتي ثانية سوف يطأ بقدميه جبلاً. كانت حياته انتقالاً من جبل إلى جبل، وهكذا يريد أن تكون حياتنا نحن حياة الجبال، وحين نصعد ونرتقي الجبال نبدأ نرى ما لم نكن نراه، ونغشى عمّا كنا نراه.
يقول الوحي: "ثم وقفت على رمل البحر فرأيت وحشاً طالعاً من البحر"
(رؤيا 1:13)؛ "وذهب بي بالروح إلى جبل عظيم عال وأراني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله" (رؤيا 10:21).
لما كان يوحنا على مستوى سطح البحر لم يستطع أن يرى أورشليم المقدسة، لم يستطع أن يرى السماء، لكن لما ارتقى الجبل العالي، رأى إذ ذاك فقط المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء. ولما كان على الجبل لم يرَ وحشاً.
أيها الإخوة إننا نرى وحوشاً في هذا العالم تحاربنا، وتصارعنا، وتكاد تصرعنا لأن بطوننا تزحف على الأرض، ولو أننا ارتقينا قمة الجبل لاستطعنا أن نرى الوحوش صغيرة ضئيلة مهزومة أمام إلهنا، لاستطعنا أن نرى السماء نازلة كعروس مهيأة لعريسها. نحن حين نرتقي الجبال نبدأ نرى ما لم نكن نستطيع أن نراه في الوادي، ونعمى عن أن نرى ما كان مجسماً ومكبراً أمام أعيننا في الوادي. ونكف عن أن نرى الخلافات التي تقسم الكنيسة إلى طوائف، نكف عن أن نرى الفوارق بين إنسان وإنسان بسبب الجنس، بسبب اللون، بسبب اللغة، بسبب البلد، نكف عن أن نرى المادة والمال مجسماً أمام أعيننا وكأنه وحده أساس الحياة... كل هذه تتضاءل وتصغر أمام أعيننا لأننا ارتقينا فوق الجبل.
حين نقترب من العالم لا نتمتع بحياتنا، ولا نرى الأشياء في نسبها الحقيقية، لكن حين نسمو فوق الجبل فإننا نرى الأشياء كما يراها الله.
2- يركضون ولا يتعبون
الجانب الثاني الذي تظهر فيه هذه القوة وهذه الغلبة كما يقول: "يركضون ولا يتعبون"، هي حياة الخدمة لله. نعم، نحن لا ينبغي ولا يمكن أن نكتفي بشركة مع الله. لا بد من الخدمة بعد الشركة، لا بد، بعد أن نصعد الجبل، أن ننزل مع المسيح إلى الوادي حيث كان إنسان قد قيده الشيطان، وكان التلاميذ يعجزون عن شفاء هذا الإنسان. ولا بد بعد أن ندخل إلى داخل أن نخرج إلى خارج كما قال المسيح: "أنا هو الباب. إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى." ندخل إلى شركة معه، ونخرج إلى خدمة له. ونركض في هذه الخدمة، نركض رغم الصعاب، ونجري رغم القوة المضادة. وما أجمل أن نركض في الخدمة. في سفر الأعمال 30:8 نقرأ عن فيلبس حينما قال له روح الله رافق هذه المركبة التي كان فيها ذلك الوزير الحبشي: "فبادر إليه فيلبس." أسرع، ركض، لم يتأخر، ولم يتوانَ في الخدمة. قال أحد رجال الله: جميل أن فيلبس قد ركض لأنه وصل إلى الخصي وهو يقرأ إشعياء 53، ومن هذا الجزء حدثه عن المسيح، وقاده إلى الإيمان بالمسيح. لو أنه تباطأ ووصل متأخراً لكان الخصي قد انتقل إلى أصحاح آخر.
ينبغي أن نجري في الخدمة، أن نركض في الخدمة، وهذه القوة لا تأتينا إلا إذا كنا ننتظر الرب. إن كنا ننتظر الرب في ثقة، في محبة، في إيمان، في طاعة، فإننا لا يمكن أن نكل ولا يمكن أن نتعب ونحن نركض. نعم، قد تتعب أجسادنا في الخدمة، ولكننا لا نتعب من الخدمة مهما تعبت أجسادنا.
3- يمشون ولا يعيون
ونأتي إلى الجانب الثالث في حياتنا التي تُظهر قوة الله فينا حين ننتظره. يقول: "يمشون ولا يعيون." هذه حياة القداسة، ومن يقرأ هذه الآية بسطحية يتصور أن ترتيب هذه المراحل في الحياة جاء ترتيباً عكسياً، لأنه إن كان الله يريد أن يظهر قوته فينا، فكان لا بد أن يبدأ من السهل إلى الأصعب، وأن يرينا البركة الصغرى ومن بعدها البركة الكبرى. فحين يقول يرفعون أجنحة كالنسور فإنه يرينا بركة عالية عظيمة. نطير أولاً ثم نحلّق، بعدها يتحدث عن الجري: "يركضون ولا يتعبون." وبعد الجري يتحدث عن المشي: "يمشون ولا يعيون."
قد يتصور إنسان أن الله ينزل في درجات البركة، وينزل في درجات الصعوبة التي يعطينا فيها البركة، كان ينبغي، كما يتصور البعض، أن يرتبها الله هكذا: يمشون ولا يتعبون، يركضون ولا يعيون، يرفعون أجنحة كالنسور. ولكن الحقيقة أن هذا الترتيب ترتيب منطقي، وأن أصعب نواحي الحياة هو المشي، المشي أصعب من الركض ومن التحليق بأجنحة النسور (المشي، بمعنى أن نمشي مع الله في كل لحظة من لحظات الحياة). قد يسهل علينا أحياناً أن نحلق، أن نرفع أجنحة كالنسور في موقف عظيم نتخذه للمسيح، في عظة جميلة نقدمها على المنبر، في عمل كبير نقوم به، نحن نحلق ونرفع أجنحة كالنسور. لكن هذا أسهل بكثير من أن نعيش كل يوم، وكل ساعة من ساعات اليوم، وكل لحظة من لحظات الساعة مع المسيح ولا نعيا.
ما أجمل هذه الصفة - السير مع الله - التي وُصف بها أخنوخ! ما أجمل أن يُقال عن إنسان أنه سار مع الله، سار يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة. كان في الخامسة والستين من عمره لما وُصف بهذه الصفة... لما وُلد متوشالح سار أخنوخ مع الله. سار ثلاث مئة عام مع الله ولم يتعب. نحن كثيراً ما نمتدح إبراهيم، ويحق لنا أن نمتدحه، ويستحق هذا المديح، لأنه ترك أور، وعائلته، وبيته، وخرج إلى أرض وعده الله بها.
كانت خطوة صعبة وجريئة، لكنها أصبحت سهلة لأن الله قد ظهر له، ووعده، وثبته، وشجعه. نعم، طوبى لك يا إبراهيم لأنك خرجت من أور الكلدانيين، ولكن أصعب من هذه الخطوة بكثير هو أن إبراهيم لم يرجع ثانية إلى أور الكلدانيين إذ اكتشف فيما بعد أن الأرض التي ذهب إليها مليئة بالصعاب، مليئة بالمتاعب. لقد وعده الله أن يمتلك الأرض فما امتلك شيئاً، لم يمتلك إلا قبراً دُفن فيه. كان من السهل جداً أن يرجع إبراهيم فيما بعد. خطوته الأولى كانت كمن يرفع أجنحة كالنسور، لكن بقاءه خارج أور كان أصعب بكثير من الخطوة الأولى. كان يمشي مع الله ولا يعيا... لا يعيا من الصعاب... من خيبة الأمل... من التجارب.
كانت الكنيسة الأولى ترى معجزات الله بوضوح: سمعت رسالة بطرس في يوم الخمسين... رأت ثلاثة آلاف يقبلون إلى المسيح بعظة واحدة. رأت الموتى يقومون والمرضى يشفون، وكانت الكنيسة الأولى تحلق بأجنحة كالنسور. لكن لما مرت الأيام وابتدأت خيبة الأمل، وابتدأت التجارب، والاضطهادات، وانتظارهم لمجيء المسيح لا يتحقق، والمعجزات تقل، كان من السهل على الكنيسة أن ترتد، لكن الكنيسة عرفت كيف تمشي مع الله.
نعم، جميل أن تتعلم كيف ترفع أجنحة كالنسور، لكن أعظم وأجمل من هذا أن تتعلم كيف تمشي مع المسيح ولا تعيا، أن تتعلم كيف تكون عاملاً مسيحياً كل يوم، طالباً مسيحياً كل يوم، محامياً مسيحياً كل يوم، طبيباً مسيحياً كل يوم، زوجة مسيحية كل يوم... أن تتعلم كيف تثبت في المسيح، ليس فقط في يوم الأحد، ليس فقط أمام تجربة عظيمة، ليس فقط حين تحلق بأجنحة كالنسور، ولكن أن تكون ثابتاً في المسيح حين تخرج إلى الشارع في زحمة المرور، في متاعب الطريق، في خلافات تثور ضدك ومن حولك، في ارتفاع الأسعار، في ضيقات في عملك، أو في دراستك، في المطبخ [أيتها السيدة]، في الحياة الرتيبة المتكررة التي فقدت إثارتها، والحماسة التي تعطينا إياها. ما أجمل أن تتعلم كيف تمشي كل لحظة مع الله. قال أحدهم: إن أصعب خطوة في طريق الحياة في أية رحلة هي الخطوة الأولى، وبعدها في الصعوبة الخطوة الأخيرة. قد يكون هذا صحيحاً، لكن الواقع أن أصعب الخطوات في طريق الحياة هي الخطوات ما بين الأولى والأخيرة. الخطوة الأولى صعبة ولكن تسهلها علينا الحماسة الأولى، والتوقع، والانتظار، والرجاء.. والخطوة الأخيرة صعبة لكنها تسهل أمامنا لأننا نكون على نهاية الطريق، ننتظر النتيجة، ننتظر المكافأة، ننتظر أن نلتقي مع المسيح.
طوبى لنا إن تعلمنا كيف نمشي ولا نعيا، نرفع أجنحة كالنسور، ونركض ولا نتعب. هذا طريق الانتصار! هلم بنا ننتظر الرب، ولننتظره انتظاراً آخر يعطينا ويولد فينا قوة جديدة: أن ننتظر مجيء الرب، ننتظر عودته إلينا ذاك الذي قال: "إن مضيت وأعددت لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً." دعونا ننتظر مجيء الرب ثانية لاختطافنا. وهذا الانتظار يولّد فينا قوة دافعة وقوة رافعة بها نرفع أجنحة كالنسور نركض ولا نتعب ونمشي ولا نعيا.