أيار (مايو) 2007
امتدح قديماً أبو فراس الحمداني حياة القناعة إذ قال:
ما كل ما فوق البسيطة كافياً فإذا قنعتَ فكل شيء كافي
وتعافُ لي طمع الحريص أبوتي ومروءتي وقناعتي وعفافي
وقد عُرِّفت القناعة بأنها الاكتفاء من المال بقدر الحاجة والكفاف؛ لكنّ الحقيقة أن القناعة تشمل الاكتفاء الماديّ ولكنها لا تنحصر فيه. فمن الناس من يرضى بمستوى معيشة معين ولكنه غير قانع في الحياة لأن الله لم يعطه مثلاًً ابناً (حتى ولو رزقه بنات جميلات كبنات أيوب!)، ومنهم من لا يعجبه المكان الذي ولد فيه ونشأ، ولا يعرف طعم الرضى إلا لو انطلق إلى مكان آخر. فالقناعة هي الرضى والاكتفاء في شتى أمور الحياة. و توحي الكلمة في الإنكليزية "satisfaction" بأنها تشير إلى الإشباع، فهو شرط رئيسي للقناعة. لاحظ الأسلوب الذي تتبعه معظم الشركات في الدعاية لمنتوجاتها، إنه التأكيد بأنك لن تكون سعيداً إلا عندما تحصل على ما تروّجه لك من سلع، سواء أكانت عطراً أم قطعة أثاث أو حتى سيارة! ولنتأمّل قليلاً في مجالين من مجالات القناعة ثمّ ننتبه إلى فوائدها.
القناعة في الأمور المادية
في عصر كثرت فيه وسائل الترفيه والراحة نجد أنفسنا جميعاً بحاجة لكي نقرر ما الذي نحتاج إليه حقاً وما الذي نرغب في الحصول عليه، وما أبعد الفرق بين الاثنين! قال الجاحظ: "القناعة هي الاقتصار على ما سنح من العيش والرضا بما تسهل من المعاش."
أمر الله في الوصايا العشر قائلاً: "لا تشتهِ بيت قريبك... ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك" (خروج 17:20). وصرّح الرسول بولس بقوله: "فضةَ أو ذهبَ أو لباسَ أحدٍ لمْ أشتهِ" (أعمال 33:20). وفي أيامنا هذه يمكن لكل منا أن يضيف لتلك القائمة عشرات الأشياء التي يتعرّض لاشتهائها ويرغب في امتلاكها. فقد يهوى الرجل امتلاك السيارات الأحدث، وأفضل كمبيوتر متطوّر، وأرقى آلة تصوير؛ بينما تصبو المرأة إلى اقتناء المزيد من الثياب والحصول على بيت أوسع والتحلي بالمجوهرات الثمينة. وحتى الأطفال والشبيبة في أيامنا صارت لهم قوائمهم الطويلة من هواتف خلوية وسائر ألعاب الكمبيوتر والفيديو، وصرنا في سباق مع الزمن، فما هو حديث الآن يغدو بعد أشهر بالياً ومتأخراً عن ركب الحضارة، وما علينا إلا أن نتخلص منه ونشتري الأرقى والأكثر تطوراً.
هنا نرى أنفسنا بحاجة لتحديد ما هو فعلاً ضروري وأولوي، وأن نتعقّل فلا نتسرع لشراء كل جديد بغض النظر عن مدى احتياجنا له أو كونه متناسباً مع قدراتنا المادية وتحصيلنا. قال بولس الرسول: "قد تعلمت أن أكون مكتفياً بما أنا فيه، أعرف أن أتضّع وأعرف أيضاً أن أستفضل، في كل شيء وفي جميع الأشياء قد تدرّبت أن أشبع وأن أجوع، وأن أستفضل وأن أنقص"
(فيلبي 13:4). لذلك استطاع أن ينشد: "كفقراء ونحن نغني كثيرين، كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2كورنثوس 10:6).
علّمنا المسيح أن نصلي: "خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" (متى 11:6). وهو الذي ترك أمجاد السماء وارتضى بأن يولد في مذود البقر، وأن ينشأ في الناصرة، ويعيش مع المساكين والفقراء، ولا يكون له أين يسند رأسه، وأن يكون البنكُ الذي يستخدمُه فمَ سمكةٍ في بحر الجليل يذهب بطرس لاصطيادها ويجد المال ويدفع الضريبة المطلوبة.
كما أكد بولس للشاب تيموثاوس بأن: "التقوى مع القناعة هي تجارة عظيمة لأننا لم ندخل العالم بشيء وواضح أنّنا لا نقدر أن نخرج منه بشيء أيضاً" (1تيموثاوس 6:6).
وقد قال الشاعر ما يتماشى مع تلك الكلمات تماماً:
أفادتني القناعةُ كلَّ عز
وأيُّ غنى أعزُّ من القناعة
فصيّرها لنفسك رأسَ مال
وصيّرْها معَ التقوى بضاعة
لا يمكن أن نفصل القناعة عن الإيمان، فالاتكال الكامل على الله يولد الاكتفاء الذي يثمر بالقناعة، لذلك يحثنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين بقوله: "كونوا مكتفين بما عندكم لأنه قال لا أهملك ولا أتركك" (5:13).
القناعة في الأمور التي لا يمكن أن نغيّرها
استضافت المرأة الشونمية وزوجها نبيّ الله وخادمه، وأراد أن يكافئهما على تضحيتهما، وعرض عليها قائلاً: "هوذا قد انزعجت بسببنا كل هذا الانزعاج، فماذا يُصنَعُ لك؟ هل لك ما يُتَكَلّمُ به إلى الملك أو إلى رئيس الجيش. فقالت: "إنما أنا ساكنة في وسط شعبي" (2ملوك 13:4). ما أروع تلك المرأة التي قنعت بالعيش بكل رضى في زمن كانت المرأة تعاني الأمرّين إن لم يكن عندها ولد. لكن الرب كافأها وأعطاها ابناً بعد سنة.
لا شكّ أنّ في الحياة أموراً يمكن أن نغيّرها ويجب أن يكون عندنا الطموح والاجتهاد لنفعل ذلك. فإن كنت تحبّ العلم مثلاً، ما الذي يمنع أن تحصّل شهادةً أعلى؟ وإن كان عندك وفرة من الوقت، لِمَ لا تجتهد في صقل موهبة أعطاك الله إياها سواء في الموسيقى أم الأدب أم الفن؟ ليس للقناعة هنا مكان، وينطبق على ذلك قول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مرومِ
فلا تقنَـعْ بما دون النجوم
ولكن ماذا عن الأمور التي تفوق قدرتنا؟ هل نقبل ما قسمه الله لنا من قامة؟ هل يعجبكِ لون شعرك وطبيعته؟ إن لم يعطنا الله أولاداً فهل نرضى ونقنع؟ وماذا عن الأمراض والإعاقات بل الوفيات في عائلاتنا؟ ألا نرى أننا في كثير من الأحيان لا نقدِّر قيمة ما أكرمنا الله به حتى نفقده؟ سئل بيل غيتس صاحب شركة مايكروسوفت في عام 1997 حين أصبح أغنى إنسان في تاريخ أميركا: "لو صرت أعمى فهل أنت مستعد لتقدم كل البلايين التي تملكها مقابل استرجاع بصرك؟" وأجاب على الفور بأنه مستعد ليعطي كل أمواله مقابل بصره. فكم يليق بنا أن نكون راضين وقنوعين وأن نركّز على ما هو لَنا وليس على ما لا نملكه؟ قالت إحداهنّ: "ستجدين في كل حين من هي أذكى منك، وبيتها أكبر، وتقود سيارة أفضل. ربما يكون أولادها أكثر تفوُّقاً من أولادك في المدرسة، وزوجها يساعدها في المنزل ويصلح فيه أشياء أكثر. لا تهتمي بل ارضي بأحوالك. افتكري في الأمر، ربما تشعر أجمل امرأة في العالم بالجحيم في قلبها، وقد تكون أفضل النساء الموظفات معك غير قادرة على الإنجاب، أما أغنى امرأة فربما لها السيارة والبيت والثياب لكنها تشعر بوحدة قاتلة. قولي لنفسك، لقد باركني الرب ويجب ألا أتذمّر البتة بل أقنع بكل ما أعطاني".
القناعة وفوائدها
إن عدم القناعة يقود الناس إلى الشقاء والسعي الدائم للحصول على المزيد بدون شبع، لذلك يحصدون التعب على المستوى الفردي، وكذلك تدفع عائلاتهم ثمناً باهظاً. فالأبوان اللذان يفضّلان أن يقضيا ساعات كثيرة في العمل لتجميع أكبر مقدار ممكن من المال، سيبتعدان حتماً عن أطفالهما، ولن يتمكنا من صرف الوقت معهم. إن المجتمع بأكمله يدفع ثمن طمع الناس في المزيد من المال، لذلك حذّرنا المسيح بقوله: "انظروا وتحفّظوا من الطمع. فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله" (لوقا 15:12). أما الرسول بولس فقال: "الطمع الذي هو عبادة الأوثان" (كولوسي 5:3). ليس الطمع خطية يقع فيها الفقراء فحسب بل لعلها تجربة أكبر للأغنياء. فقد اشتهى الملك أخآب كرم جاره، ولم يعد يعرف النوم ولا الأكل إلا ليحصل على ذلك الكرم (1ملوك 4:21). ومع أنه حصل على شهوته بالكذب والظلم والقتل حسب تخطيط زوجته إيزابل، إلا أنهما حصدا نتيجة عصيانهما وماتا على أرض الكرم نفسه.
وللقناعة بركتها. فالقانع في الحياة هو إنسان سعيد، لأن سعادته لا تعتمد على الأشياء بل لسان حاله ما صلاّه المرنّم: "جَعَلْتَ في قلبي سروراً أعظمَ من سرورهم إذ كَثرَت حنطتُهم وخمرُهم" (مزمور 7:4). هل يمكن أن تتخيَّل كيف ستكون الدنيا لو كان التاجر، والطبيب، والموظف، والحاكم، والقائد الدينيّ جميعاً متحلين بالقناعة؟ ستقودنا القناعة إلى فضائل كثيرة كالعطاء والأمانة وأعمال الخير، فلنتحلّ بها وهكذا نجني نحن والآخرون من بركاتها.