آب (أغسطس) 2008
هو تنين رهيب لا مهرب من مواجهته.
يتحدّى الجنس البشري ويسخر من محاولات الإنسان للقضاء عليه.
تمتدّ يداه كأذرع الإخطبوط لتلتفّ حول فريسته، فتعتصر منها كل قطرة دم.
إنه الموت الذي لا بدّ منه!
دخل الموت إلى العالم من جراء الخطيئة التي ارتكبها أبوانا الأولان. خطيئة غلبت فيها الشهوة على التحذير الإلهي، فانصاعا إلى قوة الإغراء، واقترفا جريمة نكراء في نظر الله لأنها كانت تحدياً صارخاً لوصيته، واستنكاراً شائناً لأمره. لم يدرك أبوانا الأولان خطورة هذا العصيان، ولا الأبعاد الرهيبة التي أسفر عنها. كانت خطيئة العصيان بداية عهد جديد مؤلم في علاقة الإنسان مع الله. هذا الإنسان الذي خلقه الله على صورته ومثاله.
أراد الله للإنسان منذ الوهلة الأولى أن يتمتّع بالبراءة المجرّدة من الخطيئة لتظلّ علاقته به علاقة مباشرة خالية من الحواجز التي اصطنعها العصيان؛ فأصبحت الخطيئة فاصلة بين الإنسان والله. إنها مأساة إنسانية جرّت الويلات على آدم ونسله ومن جملتها الموت.
لقد أنذر الله مخلوقه الأول أنه في اللحظة التي يتمرّد على نواهيه موتاً يموت. ولم يكن هذا الموت يتوقّف على الموت الجسدي فقط، بل تخطاه إلى الموت الروحي الذي أفضى، في عبر التاريخ، إلى التجسد الإلهي، وفعل الفداء من أجل إعادة العلاقة المفقودة بين الإنسان وبين الله. لقد نجمت عن هذا التمرّد عواقب وخيمة شملت كل مناحي الحياة الإنسانية، ونقلت الإنسان من عهد البراءة والنقاء إلى عالم مفعم بالفساد والألم والشقاء والانفصال.
ولست أريد في هذا المقال الموجز أن أبحث في ماهيّة كل هذه النتائج المرعبة، ولكنني سأقتصر في تأملي على قضية الموت لأن لها مساس مباشر في حياة الخليقة كلها من إنسان وحيوان وحتى نبات.
قلّة هي القضايا التي لا بدّ من مجابهتنا لها، شئنا أم أبينا، كقضية الموت. والدارس للأصحاح الخامس لسفر التكوين يرّوعه أن يقرأ هذه العبارة لدى استعراضه لسجل مواليد آدم التي تتردّد في نهاية حياة كل واحد منهم مهما طال عمره: ”فكانت كل أيام... ومات“. الموت هنا هو نقطة التوقّف. إنه لحظة الختام المادي للحضور الإنساني، وظاهرة حتمية في سياق التطور البشري. وأكثر من ذلك، إن دخول الموت إلى العالم هو تنفيذ للقضاء الإلهي الذي أنذر الله به أبوينا الأولين.. صحيح أن ”الموت الفردي“ لا يعني فناء الجنس البشري بأكمله. ولكن الموت هو وجود صارخ، وشهادة حيّة للحق الإلهي. من وجهة نظر بشرية هو صفعة في وجه الحياة.
ولكن، ما هي ردّات فعل الإنسان أمام حقيقة الموت؟
هناك ردّات مشتركة يمكن تعميمها لأنها نابعة في جوهرها من التكوين الإنساني. ولعلّ أبرزها هي الردّة العاطفية التي ليست لها علاقة بالمواقف العقلية وحتى الدينيّة. فالملحد والمؤمن على حدٍّ سواء يتعرّضان لنفس المشاعر الأليمة الناجمة عن فراق الأحباء، على اختلاف في مفهوم الموت لدى كل منهما. فالأحاسيس لا بدّ أن تعبّر عن ذاتها بالدمعة، والأسى، والحزن، والشعور بالضياع، والكآبة، والفراغ، والوحشة، وغيرها من الأحاسيس الكامنة في أعماق النفس. ويخطئ من يظن أن هذه الأحاسيس التي تستبدّ بالإنسان المؤمن هي خطيئة، وأنه لا يجوز لنا أن نعبّر عنها في مثل هذه الظروف المحزنة التي تلمّ بنا. إن صحّ هذا الكلام، فكيف نفسّر بكاء المسيح على أورشليم، أو عند قبر لعازر؟ إن الفرق الكبير بين أحزاننا وبكائنا كمؤمنين عند فراق أحبائنا هو أننا لا نحزن كالباقين الذين لا رجاء لهم.
إن هذا الرجاء هو ما يميّز مواقف المؤمن من مواقف الملحد أمام الموت. قد تكون آلام المؤمن أو المؤمنة أكثر عمقاً نتيجة للعلاقة الزوجية التي أشار إليها الكتاب المقدس حين قال: ”ويكون الاثنان جسداً واحداً“ (مرقس 8:10)؛ ذلك أن الرابطة بينهما هي ليست رابطة جسدية فحسب، بل هي رابطة روحية عمّقتها وحدة الهدف، ووحدة الخدمة، والنظرة الشاملة للحياة، والتي كلها تجسدت في الحياة الزوجية بصورتها الشاملة؛ عندئذ يكون الفراق كانسلاخ الجلد عن اللحم؛ أليماً، عميقاً، ومفعماً أيضاً بالذكريات في انتصاراتها وضعفاتها. إن إنتساج الحياة الزوجية في العرف المسيحي له ثمن باهظ لا بدّ أن ندفعه في لحظات الفراق. أنا لا أدّعي أن غير المؤمن لا يقاسي من الألم لدى فراق أحبّائه، إنما أتحدّث هنا عن نوعية، ومدى ما يترتّب عنه من نتائج بفعل تلك الروابط التي تفتقد إليها الحياة غير المسيحية. أجل، إن الثمن باهظ، ولكن مع ذلك فهناك الرجاء الذي يتحدّث عنه الكتاب المقدس، ولكن أي رجاء أشير إليه؟ إن الموت هو مصير كل إنسان لا فرق في ذلك بين الملحد والمؤمن، بين الغني والفقير، بين الغربي والشرقي، ولكن ماذا بعد الموت؟
إن الرجاء هو في سرّ القيامة. يلمّح بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي إلى الحقيقة المجيدة التي يتوقّعها كل مؤمن: ”لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ... ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ“ (1تسالونيكي 14:4 و17).
فالموت هنا في نظر المؤمن هو عبور الجسر إلى العالم الآخر، هو انتقال من حياة الاغتراب في عالم محكوم عليه بالدمار إلى عالم هو الوطن الحقيقي الذي يستقرّ فيه المؤمن، ويدرك معه أن الأبدية مع المسيح هي المكافأة العظمى للولاء المطلق لكل من يؤمن به. هذا اليقين هو سر رجاء المؤمن. هو المنارة الحقيقية التي تومض في ليل الأحزان الحالك، فيراها المؤمن رغم كثافة العتمة، وهياج العواصف حوله، وعمق الآلام الدامية، المرفأ الذي يتوق إليه.
وفوق ذلك، إن المؤمن المسيحي ينتظر رجاء لقاء الأحبة الذين سبقوه إلى المجد، وهذا ما عناه بولس الرسول عندما طالب المؤمنين أن لا يحزنوا ”كالباقين الذين لا رجاء لهم“. إن الالتقاء بالأحبة هو جزء لا يتجزّأ من المكافأة التي سيحظى بها المؤمنون. هذه الحقيقة لم تغب عن ذهن بولس الرسول لأنه أدرك أيضاً أن هذه النفوس الحزينة التي فقدت أعزاءها تتشوّق إلى لقائهم، وأن هذا الفراق هو فراق مؤقت لن يطول لأن اليوم الموعود بكل ما فيه من أفراح تمسح دموع الأسى، أمر واقع. فاليقين هنا يقوم على أساسين هامين: اللقاء بالمسيح واللقاء بالأحبة.
ولكن هناك جانب آخر ينبغي أن نلمّح إليه في سياق هذا التأمل. إن قيامة المسيح من الأموات ضمنت قيامة المؤمنين، وبالتالي فإن غلبة الموت فقدت قوّتها، وأن شوكة الهاوية لم تعد تهدّد المؤمنين بالمسيح. لهذا فمهما بلغ الألم بالمؤمن، ومهما كانت مجابهة الموت قاسية وضارية أحياناً، وقد تولّد في النفس تساؤلات وحيرة، فإن أنياب هذا ”الغول“ الرهيب قد تحطّمت، وشوكته قد انكسرت، والهاوية التي تلقي الرعب في قلوب الذين لم يختبروا خلاص المسيح قد أصبحت مغلقة في وجه المفديين إذ ”لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ“ (رومية 1:8). قد يسبّب الفراق الجسدي آلاماً وأحزاناً، ولكنه يعجز عن حرمان المؤمن من الرجاء الموضوع أمامه، والصورة الكتابية المرفقة بالوعود الأمينة هي خير مشجّع ومعزّ، ونحن على يقين بأن الذي قال: ”وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ“، هو دائماً يفي بوعوده ولا ينقض عهداً قطعه على نفسه.
ولكن، ما هو موقف غير المؤمن من الموت؟
ما هي ردّة فعله بما يتعلّق بالحياة الأبدية والرجاء الموعود؟
من المؤسف حقاً أن ما ورد في الكتاب المقدّس حول مصير غير المؤمنين لا يدعو إلى الرجاء، لهذا فإن أحزان هؤلاء هي مجرّدة من كل المواعيد التي أنعم بها الله على الذين يؤمنون بقوّة الفداء.
هذا هو الفارق العظيم بين أحزان المؤمنين عند مواجهة الموت، وأحزان غير المؤمنين الذي لا رجاء لهم. فمن أي الفريقين أنت يا قارئي العزيز؟