آب (أغسطس) 2008
أمامي مجموعة من الاستفسارات التي تتردّد في أذهان الكثيرين سنحاول من خلال هذه الحلقة الإجابة عنها، إنما أقول بادئ بدء: إن كلّ ممارسٍ جادٍّ للمطالعة يشعر دائماً بمتعةٍ مميزةٍ وهو يغرف المزيد من المعلومات التي يطّلع عليها...
وهذا النوع من المتعة بشكّل حافزاً هامّاً لمواصلة التّنقيب في الكتب للاطلاع على الحقائق والاستمتاع بالمعلومات. ويؤسفني القول بأن هذه العادة الطيبة يفتقر إليها الكثيرون في مجتمعاتنا العربية.
وأشير هنا بأنَّ المطالعة مؤشر يُحسب في المقاييس العالمية عند محاولة تصنيف المجتمعات البشرية لتحديد مفهوم التقدّم أو الرُّقيّ أو التحضّر أو التخلُّف... ولا بدَّ أن أشير هنا إلى أن مفهوم التخلّف قد ينطبق أحياناً على بعض الهواة من ممارسي المطالعة، والإشارة هنا إلى الذين يحصرون مطالعاتهم في شريحةٍ ضيقةٍ من الكتب التي تندرج تحت عنوانٍ معيّن لا يحيدون عنه، فتبقى مساحة تفكيرهم محصورة ضمن إطارٍ ضيّقٍ لا يخرجون عنه ولا يدرون ما وراءه إلا بما سمح لهم خيالهم فيه من هواجس وأفكار!
حدّثتني جدّتي يوماً وأنا صبيٌّ صغيرٌ بقصةٍ ما زالت عالقة في ذاكرتي، قالت: إن رجلاً من القرية كان لا يعرف القراءة، سافر ولده إلى بلاد المهجر في زمنٍ كانت فيه وسائل الاتصال نادرة، وفي يوم حمل البريد رسالة لصاحبنا من ابنه، فأخذ الرجل الرسالة إلى شيخٍ في القرية عُرف عنه أنه قارئ. فأخذ الشيخ الرسالة وقلَّبها في يده أكثر من مرة، ثمّ هزّ رأسه وردّها إلى صاحبها معتذراً وقال: لا قدرة لي على قراءتها. فقال له: لماذا؟ ألست بقارئ؟ فقال: بلى، ولكن لا أحسن القراءة إلا في كتاب ورثته عن جدّي. فضحك الرجل وحمل رسالته وخرج وهو يُلوّح بها بين المارة في الشارع يصيح ويقول: شيخنا لا يقرأ إلا بكتاب جدّه. فصار هذا مثلاً يُقال في الذين ينغلقون على أنفسهم فلا يقرأون ولا يُطالعون إلا فيما يختصّ بزاوية ضيّقة يؤمنون بها ولا يرغبون الانفتاح أو الاطلاع على غيرها.
عزيزي القارئ، أجواء منغلقة كهذه تشكّل مرتعاً سهلاً يعشش فيه حتماً ضيق النظر، والعزلة، والانغلاق، وربما التعصب والتطرّف. والعالم اليوم وحتى بعد أن وصل إلى القرن الحادي والعشرين، ما زال يعجُّ بمجتمعاتٍ منغلقة على ذاتها تعيش في قوقعتها الخاصة تخشى لو انطلقت منها أن يفلت الزمام وتضيع في أجواء الانفتاح على الآخر. مجتمع كهذا يصدق فيه القول بأنه لا يجيد القراءة إلا بكتاب جدّه.
ويُلاحظ أنه عندما يخرج أفراد من مجتمعاتِ الكبت والعزلة التي أشرنا إليها، إلى خارج الرقعة الجغرافية التي تربّوا فيها على المفاهيم الضيّقة، فبعضهم يُصابون بالصدمة لما يجدونه خارج حدود بلدانهم من حريةٍ فكريةٍ وانفتاح، فتهتزّ مفاهيمهم ويقعون في حيرةٍ يترجحون فيها لبعض الوقت في منطقة محايدة بين قطبي منطقة الجاذبية حتى يقرروا إما الذوبان في مجتمعهم الجديد ونسيان الماضي بكلّ مؤثراته، أو أن يقعوا بتأثير الصدمة في هوة الانحلال فيَكْفُروا بكلّ القيم والمبادئ التي تربّوا عليها. وهناك خيار آخر قد يروق لمن يشاء منهم وهو أن يبقوا في قوقعة ما كانوا عليه فيعزلون أنفسهم عن مجتمعاتهم الجديدة، ويعيشون في وادٍ والعالم من حولهم في وادٍ آخر! ولو حصل هذا فإنه يخلق لهم ما يخلقه من متاعب ومضايقات وحرج لا مخرج منها... وعقدة السّرّ كلها هنا تكمن في عدم القدرة على الانفتاح أو في التقرّب من الآخر والاطلاع على ما لديه من تحضُّرٍ.
ويُلاحظ أن في سعي المجتمع المنغلق لتحصين ذاته من غزو الآخر، عملية اجتهاد لتفسير عقيدة الآخر وفقاُ لمزاجه هو فيقنع العامة من شعبه بأمور وهمية مُشوَّهة عن الوجه الآخر، لكي يُنفِّر جماعته من الغير وبذلك فهو يؤكّد على عزلتهم وإبقائهم على ما هم فيه.
ونقولها بصراحة إن مشاهد من هذا القبيل مرّت في تاريخ المجتمعات البشرية على اختلاف معتقداتها، وما زالت صور حيّة منها تمارس في هذا الزمن من عمر البشرية وتسبب حرجاً للكثيرين. فالانفتاح، والمرونة واحترام حرية الآخر ومعتقداته، عناصر ضرورية للتعايش السليم بين مجتمعات الناس على اختلاف خصوصياتهم. وأوّد هنا أن أسجّل شكري القلبي للرب الواحد الذي نعبده لما تقدمه المسيحية لنا من تعاليم مستقاة من إنجيل الحق، وتدعونا للانفتاح على الآخر أياً كان الآخر، كما تدعونا لاحترام حرية الآخر، وما يدعونا إليه الإنجيل الكريم من مرونة في التعامل مع أيٍّ كان من أصناف البشر على اختلاف منابتهم ومشاربهم ومعتقداتهم.
فالمسيحية تقدّم رسالتها الصريحة للعالم كافة، وتترك للآخر القرار في أن يقبل أو يرفض، فإن قَبِلَ باركته، وإن ارتدَّ بعدها تقدّم له النصح بكلّ الحب والإخلاص، وإن عاد ورفض، فهو مسؤول عن قراره أمام ربه، إنما لو أرغم قسراً كما يعمل البعض من خارج الوسط المسيحي – سيكذب أو يُنافق ويتظاهر بالتقوى، فنكون بذلك قد صنعنا منه إنساناً منافقاً، وآفة النفاق إن تفشَّت في الأمة انهار كيانها وتفككت أوصالها، وانقسمت على ذاتها، وتعدّدت مدارسها الفكرية، وأصبح كلٌّ يُناقض الآخر أو يُحاربه... وهذه تجربة أثبتت وجودها على أرض الواقع في المجتمعات البشرية التي تُعاني من التمزق والانقسام.
ولذلك فالمسيحية تتحرّك ضمن إطار تقديم النصح والإرشاد لرعاياها، ونشر تعاليمها بالوسائل المتاحة للعالم أجمع، فهي لا تُجْبر أحداً على القيام بواجباته الدينية من صومٍ أو صلاةٍ أو حضورٍ واجبٍ لبيت الله، فمسيحها قال: ”اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا (أي بشِّروا) بالإنجيل للخليقة كلها. من آمن واعتمد خلص، ومن لم يُؤمن يُدَن“ (مرقس15:16).
ثمّ إن اهتمام المسيحية ينصبّ على قلب الإنسان لشفائه من داءٍ عضال يُسميه الكتاب المقدس "الخطية". والخطية داءٌ متفشٍّ في كيان الإنسان، وهو المسبّب لكلّ الأزمات التي تُعاني منها الشعوب والأفراد منذ أن سقط آدم في معصية الله.
ويتساءل البعض عن الطهارة والنجاسة في المفهوم المسيحي، فنقول: إن مبدأ الطهارة والنجاسة في المفهوم المسيحي ينصبّ على تحديد مفهوم الخطية والخلاص منها، فالخطية نجاسة تفسد الصلاة، وتفسد علاقة الإنسان بالله. ونقولها بصراحة: إن هذا المفهوم غائب عن أذهان الملايين من البشر سواء مسيحيين أو غير مسيحيين... وسبب الخطأ هو أن الناس حسبوا أن طقوس عباداتهم التي يمارسونها هي كفيلة بأن تفك مشكلتهم مع الله وتُؤمِّن لهم رحمته... بينما قلوب الكثيرين منهم تبقى ملوّثة بالخطايا والآثام. يقول الله في كتابه: ”لا أُطيق الإثم والاعتكاف“. فهؤلاء لا يدرون أن الخطية تبطّل ما يقومون به من واجبات دينية تقليدية، فمثلهم سيُصدم في يوم الدّين عندما يكتشف الحقيقة، والمأساة حينها تكون في أن فرصة النجاة قد ولّت لأن يوم الدّين هو يوم إعلان الحكم ولا فرصة فيه للنجاة...
ونعود إلى السؤال حول الطهارة والنجاسة، ونقول من جديد: إن ممارسة الخطية في حكم الله نجاسة، والنجاسة تُفسد الصلاة إذ تبني جداراً بين الخاطئ والله. قلب الخاطئ موبوء بالعصيان ويحتاج إلى التطهير من الميل إلى الباطل ومن الأفكار الشريرة، ومن الكذب والشتيمة، ومن الكلمة البطالة، ومن النميمة والاحتيال، ومن الطمع والسرقة، ومن غيرها من مفردات قاموس الشرور والآثام...
جاء فريقٌ من الفرّيسيين اليهود يوماً إلى المسيح وانتقدوا تلاميذه لأنهم أكلوا دون أن يغسلوا أيديهم بالماء لتطهيرها قبل الطعام... وغسل الأيدي قبل الطعام عندهم كان تقليداً دينياً يُمارسونه، ومن يُخالفهم فيه يعتبرونه خارجاً عن الشريعة...
فقال لهم: "يا مُراؤون، حسناً تنبأ عنكم إشعياء النبي حين قال بلسان الوحي: يقترب إليَّ هذا الشعب بفمه ويُكرمني بشفتيه وأما قلبه فمبتعدٌ عنّي بعيداً، وباطلاً يعبدونني وهم يُعلّمون تعاليم هي وصايا الناس".
ثمّ دعا الجمع من الحضور وقال لهم: ”اسمعوا سمعاً وافهموا، ليس ما يدخل الفم يُنجّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا يُنجِّس الإنسان...“ وقال: ”إن كلّ ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج، وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك يُنجِّس الإنسان، لأن من القلب تخرج أفكار شريرة، قتلٌ، زنىً، فسقٌ، شهادةُ زور، تجديف، وهذه هي التي تُنجِّس الإنسان، وأما الأكل بأيدٍ غير مغسولة فلا يُنجِّس الإنسان".