كانون الأول (ديسمبر) 2008
رقيق كالنسيم، لكنه ثائر كالعاصفة. ليِّن كالعود الرطب، غير أنه قوّي لا يلتوي ولا ينصهر. فيه تلاقى النقيضان، ثم ائتلف الضدّان.
حول مهده الوضيع اجتمع رعاة بيت لحم بحكماء المجوس، فالتقى الفقير بالغني، وعانقت السذاجة الحكمة، واتّحد إيمان البساطة والتسليم بإيمان البحث والعلم، وتصالح اليهود والأمم.
رآه بعض الناس، فقالوا: رأينا فيه إرميا ... وكانت رسالة إرميا تفيض حنانا وشفقة. ورآه البعض الآخر، فقالوا: لا بل رأينا فيه إيليا... مع أن رسالة إيليا كانت مفعمة صرامة ولازمتها النيران المحرقة. وكان كل فريق منهما على حق‘ لأن في شخص المسيح التقت النعمة بالحق، والنعمة تعطف وتحنو وتترفق، والحق لا يعرف إلا العدل المطلق.
ليس في لغة البشر كلام رقيق يعادل كلماته اللطيفة التي واسى بها الحزانى والخطاة والمساكين. وليس في معاجم اللغات ألفاظا قاسية بصراحتها. كدت أقول بصرامتها ـ مثل كلماته القوية الفاحصة التي جابه بها الفريسيين والمرائين.
بأنامله الرقيقة لمس عيني الأعمى فأعاد إليهما قوة الإبصار... وبنفس هذه الأنامل صنع سوطاً من حبال، ألهب به ظهور الصيارفة والتجار، حتى طردهم من الهيكل. ما من شيء يوازي رحمته للضعفاء سوى شدته على الأقوياء "انزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين... أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين" (لوقا 52:1)
أما كلماته، وأمثاله، وعظاته فقد جمعت إلى عمق المعاني وروعتها، بساطة العبارة ورقتها. يسمعها البسطاء، والأميون فيفهمونها ويظنون أنهم استوعبوها. ويدرسها العلماء والفلاسفة فيعجزون عن فهم معانيها. فقد أعلن حكمته للأطفال وأخفاها عن الحكماء والفهماء.
يقرأ السواد الأعظم من الناس مبادئه التي احتوتها موعظته على الجبل، فيخيّل إليهم أنها سهلة المنال، فإذا حاولوا أن يطبّقوها على حياتهم العملية، وجدوها أصعب منالاً من أعلى القمم في شواهق الجبال.
دعا إليه المتعبين والثقيلي الأحمال لكي يريحهم "لأن نيره هين وحمله خفيف". وفي الوقت نفسه طالبهم وطالبنا أن نحب أعداءنا، ونبارك لاعنينا وأن نصلي لأجل الذين يسيئون إلينا ويطردوننا. من منا يقدر أن يحب القريب كما يجب؟ فكيف إذا نحب العدو؟!
غير أن هذا المطلب العسير يحمل بين ثناياه حكمة جليلة: فمن الخير للإنسان أن يهدف إلى الكمال وإن أخطأ المرمى، كما أن العسير على الإنسان الطبيعي، هين ميسور للإنسان الروحي الذي يحلّ في قلبه روح المسيح، لأن المسيح يجعل له المستحيل ممكناً.
كان وديعاً دون أن يكون ضعيفاً. ضحّى بذاته وأنكر نفسه حتى الموت، لكنه أعلن قيمة نفسه، وقدْرَ رسالته، فقال:
قد سمعتم أنه قيل للقدماء... أما أنا فأقول لكم... قد تكلم غيري بالصدق... لكني أنا هو الحق! أنتم تسلكون في حياتكم مسالك كثيرة لكن أنا هو الطريق! أنتم عائشون في هذه الحياة... لكن أنا هو الحياة!
كان مسالماً إلى أبعد حدود المسالمة حتى دعاه إشعياء: "رئيس السلام". لكنه طالب الناس أن يتخذوا موقفاً صريحاً حاسماً بين النور والظلام، ولو آل بهم الأمر إلى أن يتحملّوا الأذى في سبيل الحق، فقال: "ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً. فإني جئت لأفرّق الإنسان عن أبيه. وأعداء الإنسان أهل بيته". وله الحق فيما طلب. ومعناه أنه إذا آمن فرد من الأسرة بالمسيح فلا بد أن بقية الأسرة ستنقلب ضدّه ولهذا قال: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني".
عاش بيننا، لكن لم يكن واحداً منا.. لقد حمل جسم بشريتنا وشاطرنا آلامنا وآمالنا لكنه لم يشترك قط في خطايانا. تنازل واتضع حتى مات عنا، لكنه على الدوام متسامياً علينا.
كان قريباً منا، وفي الوقت نفسه غريباً عنا. فمع أنه أقرب إلينا من الهواء لأجسادنا إلا أنه كان في قداسته وطهره بعيداً كل البعد عنا.
في قلبه الجريح، التقى الحب القوي بالكراهية، فقد أحب الخطاة حتى الموت لكنه أبغض الخطية. فكلما كان النور قوياً كان الظل قوياً أيضاً. فأسمِعينا يا ملائكة السماء نشيد سلام الميلاد، وأشيدي، وردّدي يا أجراس بيت لحم وأعِيدي لحن نشيد السلام. فليس السلام وعداً مطلقاً بغير قيود، لكنه وقف على صاحب القلب الجديد.