كانون الأول (ديسمبر) 2008
دارت الأرض بنا عدة دورات حول الشمس وعادت إلى حيث كنا بالأمس لنذكر في هذه الأيام مجيء المسيح إلى أرضنا، وقد احتفل عدد كبير من المسيحيين بهذه الذكرى ويحتفل عدد آخر بعد أيام بتلك الحقيقة. فنحن إذ نذكر مجيء المسيح إلى أرضنا نذكر كيف أن رب الزمن ارتضى أن يدخل دورة الزمن فوُلد بيننا طفلاً.
نذكر كيف أن كلمة الله الحي صار في المهد طفلاً لا يقوى على الكلمة. نذكر كيف أن إلهنا لم يتركنا وحدنا تحت آلامنا وآثامنا.. إنه جاء إلى أرضنا ليبحث عنا ويرفع عنا أثقالنا، فوجدنا في تلك الأيام، ذاك الذي له القدرة المطلقة أن يتخطّى كل القيود، قد جاء وقمطته أمه وأضجعته يوم ميلاده في مذود، ثم بعد ذلك لفه أتباعه ودفنوه يوم صلبه في لحد.
ليشهد للحق
ونحن بهذه المناسبة يجدر بنا أن نسأل: لماذا وُلد المسيح؟ ولكي تأتينا الإجابة صحيحة كاملة دعونا نوجّه السؤال إلى المسيح نفسه. لنسمع ماذا يقول لنا في الكتاب المقدس: ”لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي“ (يوحنا 37:18).
فقد جاء أولاً ليشهد للحق. وفي مجال آخر قال: ”أنا هو الحق“. قد جاء ليعلن الحق من جهة الإنسان. فنحن إذ نتساءل في هذه الحياة: من هوالإنسان؟ أهو مجرد فقرة في سلم الرقي والارتقاء والتطور، أو أنه مجرد حيوان ناطق في هذا العالم؟ فإذا بالمسيح قد جاءنا ليعلن لنا الحق عن الإنسان كما أراده الله أن يكون. فالإنسان كما نراه اليوم ليس الإنسان الذي أراده الله، لكنه الإنسان الذي شوّهته الخطية، وحدّدت من إرادته، وقيّدت حياته. ولكن إن أردنا أن نعرف الإنسان كما أراده الله أن يكون فعلينا أن نذهب إلى المسيح نفسه، لأنه هو الإنسان الكامل الذي لم يعرف خطية، الذي أعلن لنا كيف يكون الإنسان. لهذا قال بيلاطس عنه وقت محاكمته: ”هوذا الإنسان“. إذاً هو الإنسان كما ينبغي أن يكون.
ثم هو يشهد للحق من جهة الله. فمعرفة الله كانت وما زالت رغبة الإنسان في كل زمان ومكان.. والله للكثيرين إله قادر عظيم لكنه إله متعال بعيد، لا يكترث بالإنسان ولا يهتم به. بالنسبة لليونانيين كان الله لا يمكن أن يحس بأحاسيس البشر. إنه لا يبالي بمتاعبهم. وفي مختلف هذه الأزمنة يتساءل الإنسان: من هو الله؟ ما هي طبيعته؟ لأنه يتمنى أن يعرف الله ويتعرّف على شخصه.
لقد جاءنا المسيح ليشهد للحق من جهة الله، بل إنه قال: ”أنا والآب واحد“. ففي معجزاته رأينا قدرة الله، وفي دموعه رأينا حنان الله، وفي صليبه رأينا محبة الله.
أعلن لنا المسيح أن الله محبة! فقد جاء ليرينا أن إلهنا مع قدرته هو إله محب.. يعطف.. يحسّ بأحاسيسنا بل إنه يتألم لآلامنا ويقف إلى جانبنا. فإذا كان الله موجوداً على الإطلاق فإنه لا بد أن يعلن ذاته لخليقته، ولا بدّ أن يفصح عن طبيعته لمخلوقاته، وكان عليه أن يعلن عن ذاته بالصورة التي يفهمها الإنسان، فجاءنا الله إنساناً في شخص المسيح لكي نفهمه ونعرفه ونحبه كما أحبنا. نسأله: لماذا جئت؟ فيقول: ”أنا قد أتيت إلى العالم لأشهد للحق“. الحق من جهة الإنسان، ومن جهة الله.
ليخلص الهالك
ثم نسأله نفس السؤال فيجيبنا ثانية في إنجيل لوقا 10:19 ”لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ“.
بعد أن أعلن المسيح حقيقتنا كبشر وحقيقة الله كإله محب، بعد أن رأينا في المسيح الإنسان كما ينبغي أن يكون، نتساءل: كيف يمكن أن نصير مثله؟ كيف يمكن أن نتحرر من قيودنا؟ وإذا بالمسيح يقول: “لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ“. ولأن الله محبة فإنه لم يتركنا تحت آثامنا وأثقالنا نصارع ونجاهد من الخطية والإثم، لكنه جاء في المسيح لكي يطلبنا ويخلصنا.. فقد جاء يطلب ويفتش. إنه لم يكتفِ بأن يعلن لنا ماذا يريد منا.. لم يكتفِ بأن يعلن لنا طبيعته، لكن إذ رأى عجزنا وضعفنا جاء إلينا.. إلى أرضنا يبحث عنا. ترك السماء بكل أمجادها ووُلد في مذود، ترك المسيح الآب، وجاء ليُحاط بالحيوان في حظيرة البقر، ويموت بين لصين حين عُلق على الصليب. جاء يبحث عنا لكي يجد كل واحد منا ويعيد الشركة بيننا وبين إلهنا. جاء يطلب ويخلص!
إنه يخلص أولاً من الخطية التي أفقدتنا الشركة مع الله، وأفقدتنا سلامنا معه، وسلامنا مع أنفسنا، وسلامنا مع غيرنا. جاء ليرفع عنا أجرة الخطية لأنه أخذها عنا على الصليب وصار فدية لأجلنا.
ثم جاء ليخلصنا من سلطان الخطية وسيادتها وأعطانا أن ننتصر عليها وألا نكون عبيداً للشيطان، لأنه قال: ”إن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا“. لقد جاء يطلب ويخلص ما قد هلك.
ليعطي الحياة الفضلى
ثم نسأل المسيح ذات السؤال ثالثاً، وهو لماذا جئت؟ فيأتينا الجواب في إنجيل يوحنا 10:10 ”أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ“.
جاء ليعطينا حياة وحياة أفضل. ليس كل موجود حياً، وليس كل ما تجري دماء في عروقه يتمتع بالحياة، بل من حياة أفضل منها الموت لأن الحياة الحقيقية هي الشركة مع الله مصدر الحياة. فإن نحن حرمنا هذه الشركة بسبب الخطية حرمنا بالتالي من الحياة. لقد خُلق الإنسان ليعيش بروح الله، فإن هو حاول أن يعيش بغير روح الله أي بروح العالم، وبروح المادية، فإنه لن يتمتّع بالحياة.
لو أننا جئنا بمصباح يضاء بتيار كهربائي قوته مائتي فولت ولكن سلطنا عليه تياراً قوته مئة فولت فقط، فإن هذا المصباح لن يضيء بالنور الذي صُنع لأجله، ولن يعطي ما يستطيع أن يعطيه لو أنه أضيء بتيار قوته مئتي فولت.
كذلك الإنسان منا: خلقه الله على صورته ليكون في شركة معه ويحيا بروحه - وبغير روح الله لا يُعطى الحياة التي أرادها له الله. لقد جاء المسيح ليعلن لنا حقيقة حالنا وعجزنا، وأننا أموات بالذنوب والخطايا.. جاء ليعلن أن الله محبة، وفي محبته لم يتركنا، لكنه خلصنا ونقلنا من الموت إلى الحياة. إنه لا يقف معنا عند هذا الحد بل ينقلنا من الحياة إلى الحياة الأفضل.. يعطينا حياة غالبة منتصرة، هذه هي الحياة التي يريدها لنا الله: التي نتمتع بها بروح الله، الحياة الأبدية التي هي حياة الله فينا. إن معجزات المسيح التي أجراها على هذه الأرض ترينا ما يستطيع أن يعمله معنا في حياتنا الروحية. لقد وقف أمام قبر لعازر الميت وقال: ”لعازر هلم خارجاً“. فعادت الحياة إلى لعازر الميت، لكنه لم يتركه عند هذا الحد.. لقد كان لا يزال مقيداً بأقمطة، فقال: ”حلّوه ودعوه يذهب“.. لقد نقله من الموت إلى الحياة، ثم نقله من الحياة المقيّدة إلى الحياة الحرّة الغالبة المنتصرة.
إن كثيراً من معجزات المسيح قد أجراها لقوم كانوا أحياء لكنهم كانوا سقماء فنقلهم من المرض إلى الصحة. لا يريدنا أحياء سقماء بل يريدنا أن نتمتع بالحياة المنتصرة. إنه يصعد بنا إلى جبل التجلي حيث نتمتّع به ونراه متجلياً أمامنا، ثم هو ينزل معنا وفينا إلى الوادي فيعيش في قلوبنا وينتصر معنا. فقد قال بولس الرسول: ”يعظم انتصارنا بالذي أحبنا“، فنحن ننتصر في قلب الضيق، والمتاعب، والآلام، لأن المسيح فينا يعطينا حياة أفضل.. حياة غالبة.. حياة منتصرة، إنها الحياة التي جاء ليعطينا إياها.
لماذا جئت؟
الإجابة: جئت لأشهد للحق: الحق من جهة الإنسان، والحق من جهة الله.
جئت لكي أطلب وأخلص ما قد هلك.. لأخلصكم جميعاً..
وجئت لتكون لكم حياة ويكون لكم أفضل.
تُرى، هل نعطيه فرصة في حياتنا لكي يتمم الغرض الذي من أجله جاء؟
هل نسمح له أن يمتعنا بالحياة الغالبة المنتصرة معه؟
هل نعطيه كل قلوبنا وإرادتنا؟
دعونا - ونحن نحدد موقفنا من المسيح اليوم - نتذكر أن يسوع هذا الذي جاء في ملء الزمان منذ ألفي عام ووُلد في مذود للبقر سيأتي ثانية قريباً..
لن يأتي هذه المرة ليولد في مذود لكنه سيأتي في مجد.
لن يأتي ليُهان لكنه سيأتي ليدين.
لن يأتي ليُصلب لكنه سيأتي ليملك.
فهل نحن على استعداد لهذا المجيء الثاني؟
لنقدّم له حياتنا، لنقدّم له ماضينا ليمحو آثامنا، لنسلمه حاضرنا ويقدسه، لنسلمه مستقبلنا ليضمنه حتى لا نخجل منه في مجيئه الثاني، بل نكون فرحين منتظرين سرعة هذا المجيء حين نلقاه على السحاب ونعيش معه كل الأيام.