تموز (يوليو) 2008
في ذكرى انتقال زوجتي إلى المجد
البيت بارد كبرودة الموت.
جدرانه صامتة كصمت القبور تغمره ظلمة دامسة تثير الرهبة؛ لا قهقهة فيه ولا صوتاً عذباً يتردّد في أرجائه يبعث على الدفء والغبطة. أجوس بين حجراته أبحث عن ذاتي الضائعة منذ أسابيع، كيان فقدته في لحظة غفلة من الزمن، سرقه الدهر مني وهرب به بعيداً، بعيداً جداً عن كل زمن أو نهاية. أصبحت وحيداً كالشريد أهيم في قفر تتلظّى فيه نيران لاهبة تلتهم ما تبقّى مني من تجلّد وصبر. أحسّ بالحياة تتسرّب من جسدي ببطء شديد فيمزّقني عذاب آكل يحوّلني إلى رماد. إن قلبي يتفطّر حزناً وأسى، وأشعر وكأن دنياي قد أطبقت عليّ وسحقتني بأثقالها المرعبة.
إنني أراك يا صديقي تحملق بي بنظرات مفعمة بالدهشة والحيرة وكأنك تلومني على ما أعانيه من ألم مبرّح. أراك تعتب عليّ لأنني أجسّد في أنّاتي أوجاع قلبٍ مدمّى، وتودّ لو تصمّ أذنيك عن هذه الصرخات الباكية التي تضجّ في صدري. إنني أسمعك تقول بصوت فيه نبرة التأنيب: ”أنت لست أوّل من فقد عزيزاً ولن تكون الأخير، فما بالك تنوح وكأنك المثكل الوحيد في هذه الدنيا؟“
أنت على حقٍ يا صديقي ولكني أتوجّع لأن الزوجة التي فارقتني ولو لقليل، كانت جوهر ذاتي في رحلة الحياة الأرضية.
انصت إليّ يا صديقي، ولو بمسحة من العطف، لأحدّثك بقصة غنيّة بالمحبة، والجهاد، والتجارب، والانتصار، والثبات أمام تقلّبات الحياة، عندئذ تدرك مدى الخسارة الفادحة التي مُنيت بها:
أربعون سنة من الحياة الزوجية انقضت كانت مترعة بكؤوس السعادة التي لا يسبر غورها إلا من كان زواجهما معقوداً أولاً في السماء. زواج منذ بدايته ترعرع في جوهره على الإيمان والمحبة والوفاء، وانتسجت خيوطه برضى الله، فنما تحت ستر جناحي القدير، وأورق كزهو الربيع عند مجاري المياه العذاب، فأثمر بأثمار الروح حتى ملأ علينا دنيانا، وترك أثراً بليغاً في حياة الآخرين.
أربعون سنة من الأمومة المثالية المتدفّقة من قلب يتفجّر بالحنان، والمحبّة، والصلوات المرتفعة أمام عرش الله كبخور متصاعد مفعم بأريج أشواق ملتهبة شاع شذاها في كل نأمة من حياتها، فما انقطع لها دعاء، ولا نالها إعياء حتى رأت فلذات كبدها جنوداً يسيرون في موكب جيش الغالبين، يكافحون في مصطرع الحياة الروحية قبل أن يختطفها الموت، وتحملها أجنحة الملائكة إلى الأمجاد السماوية. تراث روحي خلّفته في حياة أسرتها. فشهدت قبل انتقالها ابناً يحمل راية الإنجيل في عالم يسوده الشرّ، وبنات مؤمنات يعشن لمجد المسيح.
أربعون سنة من الخدمة المسيحية، شريكة أمينة في نضالها في المعارك الروحية، تجدّ في خدمة سيدها من غير كلل، تحمل صليبها على كتفها شعاراً حياً للانتماء الروحي، وتعبيراً عملياً عن ولائها العميق لفاديها؛ ترفّ راية الإيمان فوق رأسها، وتتقدّم الصفوف في مصطرع القتال رافعة علم النصر، فجاهدت الجهاد الحسن وأكملت السعي في خدمتها بقلب عامر بالفرح ونفس متشوّقة أبداً لتضحّي بكل ما لديها في سبيل من مات من أجلها وافتداها من ربقة العبودية.
أربعون سنة في رحلة غربتنا الأرضية كانت لي فيها نعم الرفيقة في الأزمات والمتاعب، فتحمّلت المشاق والآلام الجسدية بابتسامة مشرقة كانت تضيء لي دربي الوعر فأسلك في الوهاد، وأخوض في أمواج الحياة الهائجة متسلّحاً بشجاعتها وصبرها وتفاؤلها، فما تطرّق اليأس يوماً إلى قلبها، ولا وهنت لها عزيمة. جابهنا معاً مآسي الحياة، ونهلنا أيضاً من أفراحها، فاكتشفنا في رحلتنا الأرضية أبعاداً من الحياة الزوجية قلّما تُتاح إلا للقلّة الضئيلة ممن استوعبوا قول الكتاب: ”ويصبح الاثنان جسداً واحداً“.
من أجل هذا كله كان الفراق في أرض الغربة أليماً، يحمل في طياته أروع ما كنت أحلم به من ذكريات، وأجمل ما أدركته من شراكة زوجية حميمة؛ فولّد انطلاقها إلى الأبدية، بعد معاناة من مرضها العضّال، فراغاً في حياة كانت حافلة بالرؤى والمنجزات، وخواءً يتعذّر على سواها أن يملأه. فالجسد الواحد هذا، انسلخَتْ عنه ذاته، ويا له من انسلاخ موجع.
ولكن هذه القصة الغنية بنبضات القلب لن تضمحلّ بالموت. إنها صورة الاغتراب الوقتي في رحلة العمر القصيرة، بل هي البوتقة التي لا بدّ للمؤمن أن يختبرها ويجتازها كي يخرج منها في صفاء ولا أبهى. أجل، إن الانسلاخ عن ”الجسد الواحد“ مؤلم جداً، وقد لا يضاهيه عذاب على وجه الأرض، غير أنني على الرغم مما أعانيه من أسى وخواء، وأشواق هاربة، وحنين ذكريات، أرفع عينيّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني، فأشكر إلهي،
أولاً: لأنه حرّركِ يا ”إيلين“ من آلامك المزمنة التي أخفق الأطباء في علاجها، فأراحكِ من أوجاعكِ، فانتقلتِ إلى رحاب السماء حيث لا دموع، ولا حزن، ولا شقاء، ولا عذاب.
وثانياً: لأنكِ الآن تتمتّعين بمحضر الرب فاديكِ الذي خدمتهِ طوال سنين حياتك بكل أمانة ووفاء، فقال لكِ حين أزفّ زمان انتقالكِ إليه فعبرتِ الجسر إلى الأبدية: نعمّ أيتها الأَمَة الصالحة والأمينة، ادخلي إلى فرح سيدكِ.
وثالثاً: لأن أحزاننا مهما بلغت من الشدّة والعمق فهي ليست أحزاناً مجرّدة من الرجاء بل هي أحزان متولّدة عن الطبيعة البشرية، ولكننا كمؤمنين، ندرك يقيناً أننا عن قريب، في اليوم الموعود، سنلتقي بالأحباء الذين سبقونا فحظوا قبلنا بالمثول في حضرة المسيح، هذا هو العزاء العظيم.
ورابعاً: على الأربعين سنة من الحياة الزوجية التي أنعم بها الرب علينا فانطلقنا معاً في متاهات الحياة نستمدّ من حبّنا قوة، ومن كفاحنا ثباتاً، ومن إيماننا رجاء، ومن وحدتنا سعادة.
فيا زوجتي الحبيبة، إنني في انتظار ذلك اليوم الذي يدعوني الرب إليه كي ألتقي بكِ ثانية في الأمجاد السماوية، فأمسك بيدكِ ونتقدّم معاً بوجهين مضيئين، ونمثل أمام عرش الفادي بالحمد والتسبيح، وآنئذ تتم الفرحة الكبرى في خلودها البهيج.
أنا، يا زوجتي، في انتظار هذا اللقاء!