تشرين الثاني (نوفمبر) 2008
لقد كمّل المسيح - له المجد - الشريعة حين قدّم ذبيحته الكاملة والنهائية لخلاص كل من يؤمن بموته الكفاري، حين ظهر ضعف الفرائض الناموسية وعدم فعاليتها كما تقول الكلمة الإلهية ”لأن الناموس، إذ له ظل الخيرات العتيدة لا نفس صورة الأشياء، لا يقدر أبداً بنفس الذبائح كل سنة، التي يقدّمونها على الدوام، أن يكمّل الذين يتقدمون“(عبرانيين 1:10)، وأيضاً: ”فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة“ (عبرانيين 10:10).
ويتابع كاتب الرسالة إلى العبرانيين قائلاً: ”فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرّسه لنا حديثاً حياً، بالحجاب، أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله، لنتقدّم بقلب صادق في يقين الإيمان، مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماء نقي“ (عبرانيين 19:10-22).
فقد ظهرت نتائج تلك المكرمة الإلهية في نفوس الذين شملتهم النعمة وقبلوا الإيمان فتقدست تقدماتهم وسمت في قيمتها ومعانيها.
فها نحن نقرأ ما كتبه الرسل للكنيسة بالروح القدس متتبعين ما علمه الرب يسوع أثناء خدمته الفعلية على الأرض، وما رسّخه وثبّته بموته وقيامته المجيدة. كما نقرأ عن المؤمنين الأوائل ومآثر تكريسهم وتضحياتهم وإنكارهم لذواتهم التي ما تزال مستمرة في الكثيرين الذين رحمهم الرب وأعطاهم نعمة الإيمان وموهبة الروح القدس. فها هو الرسول بولس مثلاً يعلم على سبيل المثال وليس الحصر
”فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، عبادتكم العقلية“ (رومية 1:12).
ويتابع في نفس الإصحاح فيبيّن قوة وفاعلية ذلك التحوّل الذي يحدث في قلب المؤمن وسلوكه بناء على الإيمان بموت المسيح وقيامته، وذلك في أربع سباعيات رائعة تختصر الحياة الغالبة والمنتصرة للمؤمن المكرس، فيذكر:
سبع مواهب (عدد 6-8)،
وسبع سجايا (عدد 7-11)،
وسبع فضائل (عدد 12-15)،
وسبع نصائح (16-18).
وتلك الجزئية من رسالة الرسول بولس إلى أهل رومية جديرة بالقراءة والتمعّن والحفظ.
ويطلب الرسول بطرس في الأصحاح الأول من رسالته الثانية من المؤمنين أن يقدموا لله تقدمات طاهرة من نوع آخر غير تلك التقدمات التي نص عليها الناموس وذلك في سباعية يبدأها بالقول: ”ولهذا عينه وأنهم باذلون كل اجتهاد قدموا في إيمانكم...“ (2بطرس 5:1-11).
1- فضيلة
وهي من ثمار الطبيعة الجديدة حيث تتغيّر تطلعات النفس وأهدافها وممارساتها مبتعدة عن طريق الرذيلة والفساد إلى طريق الحق والبر والصلاح تلك الحياة الهادفة لتمجيد الرب ورفع اسمه عالياً.
2- وفي الفضيلة معرفة
وهو لا يركز بهذا على المعرفة العقلية أو العلمية وإنما يشير إلى معرفة القدوس التي هي فهم كما نقرأ أيضاً أن ”رأس المعرفة مخافة الرب“ لأن من طبيعة غير المؤمنين دائماً المغالطة والمعاكسة لكل ما هو صالح كما يقول الكتاب أيضاً: ”والحكمة تبررت من بنيها“.
3- وفي المعرفة تعففاً
فالأشرار وغير المؤمنين متكالبون دائماً ومتهافتون على شهوات نفوسهم والانغماس في الشرور والأدناس لعلهم يشبعون جوع نفوسهم من أطايب العالم التي لا تزيد النفس إلا جوعاً وعطشاً. لكن كلمة الله تقول: ”النفس الشبعانة تدوس العسل وللنفس الجائعة كل مرّ حلو“.
4- وفي التعفف صبراً
ما أجمل أن يصبح صبر المسيح، طبعاً، للمتسرعين والحمقى القلقين لأتفه الأمور وهو من فاعلية عمل الله في قلب المؤمن الذي يمتلئ بالثقة بمواعيد الله وعنايته. وهو ليس صبر التجلد أو تحدي الواقع، ولكن صبر الإيمان والثقة كالصبر في الضيقات والشدائد لأجل الرب، والصبر على ضعفات الآخرين، والصبر لاقتناء النفس، والصبر لنوال الثمر الموعود به من الرب في حينه.
5- وفي الصبر تقوى
وهي سيرة الحياة النقية المرتكزة على خوف الله والحذر من الوقوع في الضعفات والخطايا، وتكون نابعة من الأعماق وليست ظاهرية شكلية كالتي هدفها اكتساب مدح الناس واستحسانهم بل غايتها المحافظة على الرضى الإلهي في كل الظروف والأحوال.
6- وفي التقوى مودة أخوية
والمودة هي الألفة والصداقة المخلصة التي تتصف بالوفاء خارجاً عن أية مصلحة ذاتية أو اعتبارات مادية. وقد وصفها الرسول بالأخوية تشبيهاً لها بالعاطفة التي تربط الأشقاء وغايتها حب الخير أحدهم للآخر، ودوام الرابطة المقدسة مهما كانت الظروف الخارجية على أساس أنها مبنية على أبوّة الله وأخوّة المسيح لجميع المؤمنين.
وربما نجد أن هذه الناحية مهملة إلى حدّ ما في أيامنا هذه في بعض التجمعات المسيحية، ولا تُعطى الأهمية التي تستحقها رغم كثرة التعاليم والآيات الكتابية التي تحث وتركز عليها. فقد اهتم الرب يسوع - له المجد - وكافة الرسل بالتشديد عليها كثيراً لعلمهم بالروح القدس ما سيؤول إليه وضع هذه العلاقة من فتور وما سيؤثر عليها من تحزبات وتشرذم خلال زمن الكنيسة على الأرض.
وقد تركزت كلمات يسوع المسيح ربنا ورسله على هذه المسألة:
أ- لأن رابط هذه الأخوّة هو الرب يسوع نفسه وليس الطائفة أو الفئة
فقد علمنا في مطلع الصلاة الربانية أن نقول: ”أبانا الذي في السموات“ دلالة على أننا أبناء أب واحد، لكل من يصلي تلك الصلاة وكذلك فقد طلب من الآب في صلاته الشفاعية أن يكون المؤمنين به في وحدة تامة تشبه وحدة الآب مع الابن.
وتقول الآية على لسان بولس الرسول: ”لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم ليكونوا مشابهين صورة ابنه ليكون هو بكراً بين إخوة كثيرين“ (رومية 29:8).
ب- لأن سلامة هذه الرابطة والمحافظة عليها هي هامة في نظر الله وهي برهان ساطع على الإيمان الحق
قال الرب: ”فإن قدمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئاً عليك فاترك هناك قربانك أمام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك ثم تعال وقدم قربانك“ (متى 23:5-24). والرسول بولس يعلم قائلاً: ”وهكذا إذ تخطئون إلى الإخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح لذلك إن كان طعام يعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد لئلا أعثر أخي“ (1كورنثوس 12:8-13). وكذلك الرسول يوحنا يقول: ”كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه“ (1يوحنا 15:3).
ج- لأن أكثر ما يسيء إلى هذه الرابطة هو: الكبرياء الروحي ودينونة الآخرين
والرب يسوع أوصى قائلاً: ”لا تدينوا لكي لا تُدانوا... ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها...“ (متى 1:7-5).
والرسول بولس علّم قائلاً: ”وأما أنت فلماذا تدين أخاك أو أنت لماذا تزدري بأخيك لأننا جميعاً سوف نقف أمام كرسي المسيح“ (رومية 10:14). وكذلك الرسول يعقوب قائلاً: ”لا يذم بعضكم بعضاً أيها الإخوة. الذي يذم أخاه ويدين أخاه يذمّ الناموس ويدين الناموس. وإن كنت تدين الناموس فلست عاملاً بالناموس بل دياناً له“ (يعقوب 11:4).
7- وفي المودة الأخوية محبة
ذلك مسك الختام. إن المحبة ”هي رباط الكمال“، ”المحبة تتأنى وترفق. المحبة لا تحسد. المحبة لا تتفاخر، ولا تنتفخ، ولا تقبّح، ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق... المحبة لا تسقط أبداً“ (1كورنثوس 4:13-8).
تلك هي التقدمات المُرحَّب بها من قِبل الله الآب وهي التي قدسها الله الابن حين كمّل الذبائح متمماً قصد الآب في خلاص البشر وإعادتهم إلى الحالة الروحية المقبولة بواسطة عمل الفداء. وجميع التقدمات الأخرى تصبح مقبولة من خلال تلك الحالة. وليت جميع الذين يسمون باسم المسيح أن يقدموا تلك التقدمات الروحية المقبولة أولاً فيظهروا أعمالهم الحسنة ويمجدوا أباهم الذي في السموات.