تشرين الثاني (نوفمبر) 2008
”ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح“ (أفسس 18:5)
معنى الامتلاء بالروح
ليس الامتلاء بالروح القدس هو الحصول على كمية أكبر من الروح لأن الروح القدس هو أقنوم إلهي، هو روح الله، وإنما معناه أن يملأ روح الله قلوبنا وأذهاننا ومشاعرنا ومشاريعنا، أي أن يتملّك ويتسلط على حياتنا. لا يأمرنا الكتاب المقدس أن نحاول الحصول على الروح القدس ”لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا [أي الذي قد أُعطي لنا]“ (رومية 5:5).
ولكنه يحرّضنا على أن نمتلئ بالروح، لأن في هذا لنا فوائد وبركات كثيرة كما سنرى. وهنا أشير إلى ملاحظة مهمة: إن أفضل طريقة لدراسة أي موضوع أو تعليم كتابي هي أن نقرأ بتدقيق وتمعّن الآيات الواردة في الكتاب المقدس عن هذا الموضوع، وذلك ”كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم“ (أفسس 14:4). كما يمكننا أيضاً أن نعرف الفرق بين ما قد يمنحه الله لنا وما يأمرنا هو أن نطالبه أو نسعى إليه.
شروط الامتلاء بالروح
هناك ثلاثة شروط أساسية للامتلاء بالروح:
أولاً: لا تحزنوا روح الله
”ولا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء“ (أفسس 30:4). لاحظ أننا فِعلاً خُتمنا بالروح القدس كما يقول في أفسس 13:1-14، ”إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا“. وطبعاً لا فائدة من العربون إذا لم أكن حصلت عليه. لكن الوصية هي لا نُحزن الروح القدس الساكن فينا (انظر رومية 11:8). لأننا إذا كنا نُحزن الروح القدس فلن يمكننا أن نمتلئ به. ولذلك يذكر بعض الأشياء التي تحزن روح الله الساكن فينا، مثل الكذب، عدم الأمانة، الكلام الرديء، الكراهية، عدم المسامحة... (أفسس 25:4-6:5) - وبالاختصار هي الخطيئة.
ثانياً: ”لا تطفئوا الروح“
”لا تطفئوا الروح“ (1تسالونيكي 19:5). الروح القدس هو الذي يحثنا على الصلاة وقراءة الكتاب المقدس والتأمل فيه. لذلك يجب أن نكون حريصين على أن نطيعه لكيلا نطفئ الروح. وهو الذي يحثني على أن أقدم شهادة لشخص ما أو أن أساعد شخصاً محتاجاً. فهناك احتياجات كثيرة حولنا، ويجب علينا أن نطيع إرشاد الروح القدس. إذاً بالاختصار نحن نُحزن روح الله حين نعمل ما ينهينا عنه، ونطفئ الروح حين لا نعمل ما يريدنا أن نعمله.
ثالثاً: السلوك بالروح
”وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكمّلوا شهوة الجسد“ (غلاطية 16:5). السلوك بالروح بكل بساطة هو عكس السلوك بالجسد. والمقصود بالجسد هو الطبيعة الساقطة التي ورثناها، والتي تشتهي ضد الروح. ونحن نعرف أن أعمال الجسد رديئة وقد ورد ذكرها في غلاطية 19:5-21، مثل النجاسة والدعارة، والخصام، والغيرة، والحسد، والتحزّب، إلخ... ”وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلام، إيمان، وداعة، تعفف“ (غلاطية 22:5-23).
الخلاصة إذاً هي أننا إذا أردنا أن نمتلئ بالروح القدس يجب أن لا نحزن الروح القدس ولا نطفئه بل نسلك به.
نتائج الامتلاء بالروح القدس
أولاً: حياة روحية مرضية أمام الله، هي حياة الانتصار الروحي التي يظهر منها ثمر الروح المذكور أعلاه.
إن الرب قبل أن يعمل بواسطتنا يريد أن يعمل فينا. لكي يصبح المؤمن ”إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد، مستعداً لكل عمل صالح“ (2تيموثاوس 21:2).
هناك ما يسميه الناس ”نهضات روحية“، وهي ليست نهضات حقيقية إن لم ينتج عنها تغيير واضح في حياة الأفراد. النهضات الحقيقية كانت دائماً مصحوبة بتوبة قلبية صادقة، وظهرت فيها التقوى الحقيقية والتعمّق في دراسة الكتاب المقدس. بالاختصار، ظهر فيها ثمر الروح الذي ذكرناه والمدوّن في غلاطية 22:5-23. يجب أن ندرك هذا لكي لا نخدع أنفسنا.
ثانياً: الخدمة
الامتلاء بالروح لازم للخدمة التي بحسب فكر الرب والتي لا تسعى نحو تعظيم الذات بل نحو تمجيد الرب. الخادم الذي يسعى ليحظى بإعجاب الناس ليس خادماً ممتلئاً بالروح، ليتنا نتعلم من يوحنا المعمدان الذي قال: ”ينبغي أن ذلك [أي المسيح] يزيد وأني أنا أنقص“ (يوحنا 30:3).
يشهد الكتاب المقدس عن استفانوس أنه كان ”رجلاً مملواً من الإيمان والروح القدس“، ولذلك عندما حدثت مشكلة في الكنيسة الأولى بخصوص العناية بالأرامل، قال الرسل للإخوة أن ينتخبوا سبعة رجال مشهوداً لهم ومملوين من الروح القدس ”فاختاروا إستفانوس الذي أصبح أول شهيد في المسيحية.
لم يكن الشرط الأساسي هو المركز الاجتماعي بل الامتلاء بالروح. كذلك نقرأ عن برنابا الذي أُرسل إلى أنطاكية ”الذي لما أتى ورأى نعمة الله فرح، ووعظ الجميع أن يثبتوا في الرب بعزم القلب لأنه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والإيمان فانضم إلى الرب جمع غفير“ (أعمال 23:11-24).
ثالثاً: حياة الفرح والتسبيح
وذلك بالرغم من الاضطهاد. عندما كان بولس وبرنابا في أنطاكية بيسيدية في رحلتهم التبشيرية الأولى آمن كثيرون من الأمميين، وكانوا يفرحون ويمجدون الرب ”ولكن اليهود حركوا النساء المتعبدات الشريفات ووجوه المدينة وأثاروا اضطهاداً على بولس وبرنابا... وأما التلاميذ فكانوا يمتلئون من الفرح والروح القدس“ (انظر 42:13-52). إن الفرح في وجه الاضطهاد هو غير ممكن بدون الامتلاء من الروح القدس. في أفسس 18:5 يقول: ”ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح“، وتكون النتيجة ”مكلمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب“. الخمر يشير إلى أفراح هذا العالم، ومن يسكر به فهو يؤثر على أفكاره وكلامه وأغانيه القبيحة. وأما من يمتلئ بالروح فهو الذي يفرح ويرنم من القلب. فليست الأهمية في جمال الصوت أو الصوت المرتفع أو المنخفض، ولا في الموسيقى الصاخبة، بل المهم أن يكون الترنيم من القلب. فكم من المرات يشترك المؤمن في الترنيم وذهنه شارد في أمور الحياة. إذا امتلأنا بالروح لن تخرج كلمة ردية من أفواهنا، بل ”كل ما كان صالحاً للبنيان بحسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين“ (أفسس 29:4). لما وُضع بولس وسيلا في سجن فيلبي بعد أن ضُربا بالعصي، كانا يصليان في منتصف الليل ويسبّحان الله (أعمال 22:16-25). وفي أعمال 40:5-41 نتعلم أن الرسل وُضعوا في السجن وجُلدوا ”وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حُسبوا مستأهلين أن يهانوا من أجل اسمه“.
رابعاً: المجاهرة بالتبشير
الامتلاء بالروح القدس يمكّننا من المجاهرة بالتبشير. تأمل في تاريخ الرسول بطرس الذي أنكر المسيح ثلاثة مرات، لكنه إذ امتلأ من الروح القدس في يوم الخمسين أمكنه أن يواجه الشعب ورجال الدين قائلاً: ”أيها الرجال الإسرائيليون... يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قِبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مسلّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه“ (أعمال 22:2-23). فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟“ (عدد 37) وكانت النتيجة أنه قبلوا كلامه بفرح وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس (عدد 41).
ونتعلم من أعمال 4 أنه عندما اجتمع رؤساء اليهود وشيوخهم وكتبتهم مع حنان رئيس الكهنة وقيافا وآخرين، أقاموا بطرس ويوحنا في الوسط ”وجعلوا يسألونهما بأية قوة وبأي اسم صنعتما أنتما هذا. حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم.. أنه باسم يسوع المسيح الناصري الذي صلبتموه أنتم“(انظر أعمال5:4 -12). ولكن لنلاحظ أن بطرس لم يشعر بكفاءة في ذاته للمجاهرة، بل عقدوا اجتماعاً للصلاة وطلبوا أن يمنحهم الرب أن يتكلموا بكلام الرب بكل مجاهرة، وامتلأ الجميع من الروح القدس (أعمال 23:4-31).
كذلك نتعلم نفس الشيء من حياة بولس الرسول، فنقرأ في أعمال 9:13 أنه ”امتلأ من الروح القدس، واستخدمه الرب هو وبرنابا فأقاما زماناً طويلاً يجاهران بالرب. ونحن لا نحتاج إلى إعطاء أدلة على نجاح خدمة الرسول بولس ومجاهرته ببشارة نعمة الله. ومع ذلك فإن بولس لم يكن متكلاً على شجاعته الذاتية، بل كان يطلب من المؤمنين أن يصلوا من أجله بهذا الخصوص كما جاء في أفسس 18:6-29 ”مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح، وساهرين لهذا بعينه، بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين ولأجلي لكي يُعطى لي كلام عند افتتاح فمي، لأعلّم جهاراً بسر الإنجيل الذي لأجله أنا سفير في سلاسل، لكي أجاهر فيه كما يجب أن أتكلّم“.
الخلاصة هي أن الممتلئ بالروح يعرف أنها قوة الروح القدس لكي يكون فضل القوة لله لا منّا (2كورنثوس 7:4).