Voice of Preaching the Gospel

vopg

تشرين الأول (أكتوبر) 2008

الصرخة الصامتة!
كيف يمكن أن تكون الصرخة صامتة؟ أليس هذا من المتناقضات التي لا يقبلها العقل؟ ولكن قف لحظة معي، ودعنا نقتحم معاً عالم اللامعقول ولو للحظة.

ألم يحدث لك أنك في أثناء نومك العميق وجدت نفسك في حلم مخيف تتعرّض فيه لخطر داهم فتند عنك صرخات هائلة لا يسمعها أحد سواك؟ في تلك اللحظات يخيّل إليك أن الدنيا قد ضجّت بدويّ هذه الصرخات وأن الوجود حولك قد هبّ مرعوباً وأقبل إليك الناس من كل فجّ ليروا ماذا يحدث لك. وفجأة تستيقظ من نومك، وتتطلّع حولك فتجد الهدوء مخيّماً، والسكينة مهيمنة على أرجاء البيت، وزوجتك الراقدة إلى جوارك تغطّ في نوم عميق، وأولادك في الحجرة المجاورة ما برحوا غارقين في النعاس، فتعتريك الدهشة، وتنظر حولك في ذهول وتتساءل: ماذا حدث لي؟ وفجأة، وبصورة تدريجية تكتشف أنك كنت تصطرع مع نفسك في معركة حلم رهيب، وأن صرخاتك المفزعة كانت تمتّ إلى عالم آخر لا علاقة له بالواقع المحسوس.
أجل، كانت تلك الصرخات حقيقية في مجال عالم الحلم؛ لها وجودها الخاص بها، وتأثيرها الفعلي في حدودها المرسومة؛ وأنها تبدو للحالم أنها حدث مميّز وليست وهماً. قد تقول لي يا قارئي إن ما نشير إليه يمكن وقوعه في عالم الأحلام والكوابيس، وهو عالم اللامعقول ولكن يتعذّر أن يحدث في دنيا الواقع. ولكن، يا صديقي، أودّ أن أنتقل بك الآن من عالم اللامعقول إلى ما يحدّثنا به الكتاب المقدس عن تلك الصرخات الصامتة التي كانت لها نتائج لا تكاد تدخل في حيّز المعقول. ولضيق المجال في صفحات هذه المجلة، سأُلْمِع إلى حادثة بارزة في العهد القديم.
وردت قصة الصرخة الصامتة في سفر نحميا 1:2-4 كما يلي: ”وَفِي شَهْرِ نِيسَانَ فِي السَّنَةِ الْعِشْرِينَ لأَرْتَحْشَسْتَا الْمَلِكِ، كَانَتْ خَمْرٌ أَمَامَهُ، فَحَمَلْتُ الْخَمْرَ وَأَعْطَيْتُ الْمَلِكَ. وَلَمْ أَكُنْ قَبْلُ مُكْمَدّاً أَمَامَهُ. فَقَالَ لِي الْمَلِكُ: [لِمَاذَا وَجْهُكَ مُكْمَدٌّ وَأَنْتَ غَيْرُ مَرِيضٍ؟ مَا هذَا إِلاَّ كآبَةَ قَلْبٍ!]. فَخِفْتُ كَثِيرًا جِدًّا، وَقُلْتُ لِلْمَلِكِ: [لِيَحْيَ الْمَلِكُ إِلَى الأَبَدِ. كَيْفَ لاَ يَكْمَدُّ وَجْهِي وَالْمَدِينَةُ [أورشليم] بَيْتُ مَقَابِرِ آبَائِي خَرَابٌ، وَأَبْوَابُهَا قَدْ أَكَلَتْهَا النَّارُ؟] فَقَالَ لِي الْمَلِكُ: [مَاذَا طَالِبٌ أَنْتَ؟] فَصَلَّيْتُ إِلَى إِلهِ السَّمَاءِ“.
لقد رأيت أن أدوّن هذا المقطع بكامله لأقدّم صورة عن الظروف التي وجد فيها نحميا نفسه. فهو من جملة أسرى السبي البابلي الذين أتى بهم الملك نبوخذنصّر بعد افتتاح أورشليم، وهدم أسوارها، وحرق هيكلها العظيم. ولكن العناية الإلهية قضت أن يصبح نحميا أحد سقاة الملك أرتحشستا، مما هيّأ له الفرصة أن يكون في محضر الملك. ويخبرنا الأصحاح الأول من هذا السفر عما حدث لأورشليم وما أصابها من خراب، فلما اطّلع نحميا على هذا التقرير قال: ”فَلَمَّا سَمِعْتُ هذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلهِ السَّمَاءِ“
(نحميا 4:1). وأكثر من ذلك، فإننا نرى نحميا يحمل على منكبيه مسؤولية جنوح إسرائيل، ويعترف بخطايا الشعب، ويذكّر الرب بمواعيده التي تعهّد بها إن ارتدّ الشعب عن غيّه، ومارس الفرائض التي أوصى الرب بها موسى، فإن الرب إله السماء، سيكفّ غضبه عن بني إسرائيل ويردّهم من السبي والشتات. وابتهل إلى الرب أن يمنحه رحمة في عيني الملك عندما يرفع إليه قضيته فيحظى برضاه. لهذا عندما سأله الملك: ”ماذا طالب أنت؟ كان نحميا،
أولاً، قد أعدّ نفسه إعداداً روحياً عميقاً. ففي مخدعه انكسر أمام الرب، وصلّى وصام وناح، ووضع المشكلة كلها بين يدَي إله السماء لأنه أدرك أنه لن توجد أية قوة تستطيع أن تغيّر قلب الملك. لقد وعى نحميا  أن مركزه كساقي الملك، ومثوله اليومي في محضره عاجزان أن يحققا آماله لأنه ”لا بالقوة ولا بالقدرة ولكن بروحي قال رب الجنود“. هذه الحقيقة لم تغب عن بال نحميا، لهذا أسلم أمره إلى الرب الذي بيده زمام قلوب الملوك.
والشيء الآخر الذي أعدّ له نفسه هو الاعتراف بخطاياه وخطايا الشعب. فالصلاة كانت مرهونة بالاعتراف الحقيقي النابع من قلب متوجّع. فتاريخ الشعب الديني والسياسي والاجتماعي في علاقته مع الله كان تاريخاً غير مشرّف، وعرف نحميا أن الصلاة المقبولة لدى الله هي صلاة الاعتراف الحقيقي، وكأنما كان يردّد في نفسه ابتهال الملك داود عندما أخطأ إلى الله: ”قَلْبًا نَقِيًّا اخْلُقْ فِيَّ يَا اَللهُ، وَرُوحًا مُسْتَقِيمًا جَدِّدْ فِي دَاخِلِي“. كانت هذه التوبة الحقيقية ضرورية جداً لكي يقبل الله تضرّعات نحميا، ويلبّي أشواق قلبه الملتهبة.
كان مركز نحميا يؤهّله كي يكون الأداة التي يستخدمها الرب من أجل إنقاذ أبناء أمّته من الحالة السيئة التي تردّوا فيها. ولكن تلك الأداة كانت تفتقر إلى القوة الفاعلة. صحيح أن نحميا كان قد حظي برضى الملك عليه، ولكنه كان واعياً أن هذا الرضى قابل للتبدّل والتغيير وفقاً لنزوات الملك ومزاجه. لهذا توسّل إلى رب السماوات أن يمنحه النجاح والنعمة في عينَي الملك.
كانت هذه الخطوات ضرورية جداً قبل أن يعرض نحميا قضيته في محضر الملك. ويبدو لي أن نحميا كان في حيرة من أمره إذ لم يدرِ كيف يبدأ حديثه مع الملك ويطلعه على خوالج نفسه وهمومه. لكن العناية الإلهية كانت تخطط بكل هدوء، وبدلاً من أن يأخذ نحميا في عرض مشكلته على الملك، نرى الملك نفسه هو الذي يبادره بالحديث ويسأله عن سبب اكمداده وتجهم وجهه. لا شك أن الأسى كان بادياً على محيّا نحميا، وإمارات الهم تلوح على تقاسيم وجهه مما أثار انتباه الملك ودهشته. فمن شأن الساقي أن يكون بشوشاً في حضرة سيده. وعندما فاتحه الملك بالحديث انطلقت تلك الصرخة الصامتة من قلب نحميا.
لم يسمع الملك ولا حاشيته أصداء تلك الصرخة الصامتة، فالصلاة التي رفعها نحميا آنئذ أمام العرش الإلهي كانت تُعْوِل في صدره منذ وقت طويل، انعكست آثارها على وجهه، ولكن الرب وحده هو الذي سمع هذه الصرخة التي ارتفعت أمامه. إنها صرخة قلب دامٍ يئنّ بالألم، ولكنه مفعم بالإيمان الصادق. لقد اعتراه الخوف من الملك عندما وجّه إليه سؤاله، وقال له إن ما أراه في وجهك هو تعبير عن كآبة قلب. ولكن نحميا لم يتردّد لحظة واحدة عن عرض قضيته بكل جرأة. إنها لحظة حياة أو موت؛ انتصار أو فشل. ولست أشك لحظة واحدة أن الدهشة العظيمة قد اعترت نحميا عندما قال له الملك: ماذا طالبٌ أنت؟ هنا انطلقت تلك الصرخة الصامتة إذ قال نحميا: ”فصليت إلى إله السماء“. قد يبدو للقارئ أن هذه الصلاة كانت صلاة آنية موجزة. نحن لا نعرف مدى الوقت الذي استغرقته هذه الصلاة. إلا أنه من الجلي أن هذه الصلاة كانت قصيرة جداً إذ لا يمكن أن يقضي نحميا وقتاً طويلاً في صلاته أمام الملك المنتظر منه جواباً على سؤاله. ولا شك أن الملك لم يكن آنئذ وحيداً في قاعة ملكه، بل كان محاطاً بالحاشية والعبيد، وربما بأصحاب المصالح أيضاً. ولكن تلك الصرخة الصامتة، صلاة الإيمان، كانت صادرة من أعماق القلب ليس من أجل نفسه، ولكن من أجل الأمة بأكملها. فهي لم تكن صلاة أنانية، ولا تدور حول مطالب شخصية، ولكنها كانت صلاة تضحية جازف نحميا فيها بنفسه لأنه لم يكن يدري ماذا ستكون عليه ردّة فعل الملك.
هذه الصلاة هي صلاة مواقف... هي صلاة صرخة صامتة ناجمة عن إيمان بعد أن واجه نحميا أولاً حقيقة الوضع الروحي الذاتي والجماعي. وصلّى أولاً صلاة التوبة والمغفرة، بل صلاة التسليم الكامل للمشيئة الإلهية، متمسكاً بالمواعيد المقدّسة. وكانت لديه الثقة أن الله الذي وعد لا بدّ أن يفي بوعوده على الرغم من تمرّد الشعب وعصيانه. كان الشرط الأساسي لقبول هذه الصرخة الصامتة هو التوبة الحقيقية.
وقصارى القول، لا تتوقّف الاستجابة على الترداد المتكرر ولا على الصرخات المرتفعة، وإنما على الوقوف في محضر الله بقلب تائب ونفس منكسرة وتسليم كامل، وإيمان واثق. وقد تكون الصلاة صرخة صامتة نابعة من قلب متألم لا يسمعها سوى الله وحده فتكون أكثر فعالية من أية صلاة أخرى لأنها تنمّ عن إخلاص صادق واستعداد تام للنزول عند المشيئة الإلهية مهما كان الثمن باهظاً. كم أحوجنا في هذه الأيام إلى آلاف من ”النحميا“، الذين يمثلون أمام الله بكل تكريس وأمانة، ويقين الإيمان، فيستمع الرب إلى تلك الصرخات الصامتة التي لا يتردد صداها إلا في القلب المكرّس.

المجموعة: 200810

logo

دورة مجانية للدروس بالمراسلة

فرصة نادرة تمكنك من دراسة حياة السيد المسيح، ودراسة حياة ورسائل بولس الرسول. عندما تنتهي من هاتين الدراستين تكون قد أكملت دراسة معظم أسفار العهد الجديد. تتألف كل سلسلة من ثلاثين درسًا. تُمنح في نهاية كل منها شهادة خاصة. للمباشرة بالدراسة، أضغط على خانة الاشتراك واملأ البيانات. 

صوت الكرازة بالإنجيل

Voice of Preaching the Gospel
PO Box 15013
Colorado Springs, CO 80935
Email: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
Fax & Tel: (719) 574-6075

عدد الزوار حاليا

122 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

إحصاءات

عدد الزيارات
10555265